102
خلال السنوات الأخيرة شهد النظام الدولي تحولا ملحوظاً في سلوك دول الجنوب العالمي. فبدلامن الانضمام إلى التكتلات التقليدية بقيادة الولايات المتحدة أو الصين، اتجهت هذه الدول نحو "عدم الانحياز الاستراتيجي"؛ وهو نهج قائم على التعددية الفاعلة والتوازن الدبلوماسي وتقليل الاعتماد على القوى العظمى.
وقد برز هذا التحول بشكل خاص مع عودة سياسات ترامب الاقتصادية وتصاعد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. وقد مثّلت قمة البريكس 2025 في البرازيل وإعلان ريو مثالاً واضحاً على هذا التحول الاستراتيجي، الذي أظهر أن دول الجنوب العالمي ليست معادية لأمريكا، بل دول إصلاحية ومستقلة.
التعددية الفاعلة بدلا من التكتل التقليدي
لقد ولّى عصر الولاءات المطلقة و لم تعد الدول الرائدة في الجنوب العالمي مثل البرازيل والهند وتركيا، تبني سياستها الخارجية على التزامات تجاه واشنطن أو بكين. إنهم يتعاونون في آنٍ واحد مع كلتا القوتين، ويبنون علاقات قوية فيما بينهم ليمنحوا أنفسهم نفوذًا واستقلالية أكبر.
أدركت هذه الدول أن المستقبل يكمن في التواصل وليس في الانضمام إلى معسكر واحد. يسمح لها هذا النموذج بالاستفادة من الفرص الاقتصادية والدبلوماسية لكلا الجانبين دون التضحية باستقلاليتها الاستراتيجية. هذا النهج الذي يشكل جوهر التعاون فيما بين بلدان الجنوب يسمح لهذه الجهات الفاعلة بمواصلة أجنداتها بقوة أكبر من إصلاح المؤسسات الدولية إلى مكافحة تغير المناخ.
قمة البريكس 2025 في البرازيل إصلاحية وليست معادية لأمريكا
ظهرت بوادر واضحة لهذا النهج الجديد في قمة البريكس السابعة عشرة، التي عُقدت في ريو دي جانيرو، البرازيل، في يوليو 2025. وعلى عكس توقعات بعض المراقبين الغربيين لم تتحول القمة إلى تجمع معادٍ لأمريكا. حيث ركز إعلان ريو في البيان الختامي للقمة على مواضيع إصلاحية وعالمية.
كانت المواضيع الرئيسية للبيان دعوةً إلى إصلاح هيكلي للأمم المتحدة والمؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ووضع إطار أخلاقي لتنظيم الذكاء الاصطناعي، والتركيز على الاستثمار المشترك لمكافحة تغير المناخ، والدعم القوي لوقف إطلاق نار فوري ودائم في غزة.
على الرغم من أن البيان لم يذكر الولايات المتحدة مباشرةً، إلا أن رسالته كانت واضحة: تسعى مجموعة البريكس إلى تقديم حلول بديلة للتحديات العالمية، وتتحدى احتكار الغرب لإدارة الشؤون الدولية. وقد أظهرت قمة البريكس 2025 أن المجموعة قد وصلت إلى مرحلة نضج تُمكّنها من المضي قدمًا في أجندة مستقلة وبناءة دون اللجوء إلى شعارات عدوانية.[1]
توازن الدول الرئيسية
أصبح التوازن الدبلوماسي الأداة الرئيسية للسياسة الخارجية للقوى الناشئة. و تُوازن هذه الدول علاقاتها مع القوى المنافسة بإدارة ذكية.
البرازيل: ردّت الحكومة البرازيلية بحزم واعتدال على السياسات الاقتصادية العدوانية لإدارة ترامب، بما في ذلك التهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على السلع البرازيلية. مع الحفاظ على قنوات الحوار مع واشنطن، سعت برازيليا إلى الحد من ضعفها من خلال تعزيز العلاقات التجارية مع الصين وأعضاء البريكس الآخرين.
الهند: نيودلهي مثال رئيسي على هذه الاستراتيجية. في عام 2025 تولت الهند الرئاسة الدورية للبريكس لعام 2026، مع تعميق تعاونها الدفاعي والأمني مع الولايات المتحدة في إطار الرباعية. كما زادت بشكل كبير من تجارتها مع الصين (على الرغم من التوترات الحدودية) والإمارات العربية المتحدة، وأظهرت أنها تضع الأمن والاقتصاد في سلال مختلفة.
تركيا: بصفتها عضوًا رئيسيًا في حلف الناتو، لم تُخفِ تركيا رغبتها الواضحة في التعاون الوثيق وحتى العضوية في البريكس. مع بقائها ضمن الهيكل الأمني لحلف الناتو، واصلت أنقرة تعاونها مع روسيا في مجالي الطاقة والشؤون العسكرية، مما جعلها جسرًا بين الشرق والغرب.[2]
صعود التعددية في السياسة الخارجية
أصبح هذا النهج البراغماتي اتجاهًا سائدًا، ووفقًا لتقرير ميونيخ للأمن الصادر في فبراير 2025 تُعرّف نسبة كبيرة من السياسيين والنخب في دول الجنوب العالمي السياسة الخارجية لبلادهم ضمن مفهوم التعددية. ويُظهر التقرير أن أكثر من 57% من هؤلاء القادة يعتبرون أنفسهم "متعددي التوجهات".
تعني التعددية تنويع العلاقات للحد من المخاطر الجيوسياسية، دون أن يؤدي ذلك إلى الاعتماد الكامل على قوة واحدة أو الانحياز الكامل مع منافستها. تُمثل هذه الاستراتيجية نسخة متطورة وأكثر تطورًا من حركة عدم الانحياز في القرن العشرين، مُعاد تصميمها لتناسب عالم اليوم متعدد الأقطاب [3].
سياسات ترامب و إعادة ترتيب العلاقات
أعطت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتكثيف سياساته الاقتصادية القائمة على شعار "أمريكا أولاً" زخمًا أكبر لهذا الاتجاه. أدت الرسوم الجمركية الباهظة على الصلب والألمنيوم، والانسحاب الثاني من اتفاقية باريس للمناخ، وتجميد الاستثمار الفيدرالي في مشاريع الطاقة النظيفة، وخفض المساعدات الدبلوماسية للدول غير الأعضاء في حلف الناتو، والتهديد بفرض رسوم جمركية شاملة تتراوح بين 10% و100% على الواردات من دول البريكس، إلى استنتاج العديد من الدول أن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة أمر محفوف بالمخاطر.
صُممت هذه السياسات للضغط على المنافسين والحلفاء للحصول على المزيد من التنازلات، لكنها أتت بنتائج عكسية، مما دفع العديد من الدول نحو استقلال استراتيجي أكبر والبحث عن شركاء أكثر موثوقية.[4]
تعزيز التعاون فيما بين بلدان الجنوب وتقليل الاعتماد على الدولار
استجابةً لهذه الضغوط وعدم الاستقرار، تعمل دول الجنوب العالمي على تعزيز تعاونها المتبادل بوتيرة غير مسبوقة. وتُعد الاستثمارات المشتركة في البنية التحتية، والمبادرات المناخية المشتركة، وتطوير ممرات النقل الإقليمية، والأهم من ذلك، التوجه نحو آليات مالية بعيدة عن الدولار، كلها علامات على هذا التحول الكبير. ويُعد السعي إلى تقليل الاعتماد على الدولار من خلال استخدام العملات الوطنية في التجارة الثنائية وتطوير أنظمة دفع بديلة أحد أهم ركائز هذه البنية الجديدة.
من المثير للاهتمام أن هذا التوجه لا يقتصر على الدول النامية، بل إن حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، مثل ألمانيا وفرنسا، يسعون إلى إنشاء قنوات حوار مستقلة مع دول البريكس وغيرها من القوى الناشئة، حتى لا يتخلفوا عن الركب في النظام العالمي الجديد. تُظهر هذه التطورات أن العالم ينتقل من نظام أحادي المحور إلى مستقبل متعدد الأطراف ومتشابك، يلعب فيه الجنوب العالمي دورًا حاسمًا.[5]
الخلاصة
في نهاية المطاف يُعدّ ظهور التعددية الفاعلة وسياسة التعددية في دول الجنوب العالمي استجابةً ذكيةً للاستقطاب الثنائي والضغط الاقتصادي والسياسي الذي تمارسه واشنطن. فمن خلال تبني نهج متوازن مع الحفاظ على حرية الاختيار، عززت هذه الدول دورها في البنية العالمية متعددة الأقطاب. وتُعدّ قمة البريكس 2025 في البرازيل و"إعلان ريو" مثالين واضحين على هذه الحركة الإصلاحية، لا المناهضة لأمريكا.
في حين شكّلت سياسات ترامب الاقتصادية تحديًا خطيرًا، اتخذت هذه الدول مبادرات جديدة في مجالات المناخ والمالية والتكنولوجيا، وقلّلت تدريجيًا من اعتمادها على الدولار. ويشكل هذا المسار مظهراً لديناميكية جديدة في السياسة العالمية للجنوب؛ وهي ديناميكية تؤكد على الاستقلال والتعاون وإعادة البناء المتعدد الأطراف.
محمد صالح قرباني
[1] https://english.news.cn/20250708/b4db1baf60df475799670d78f6f3f87c/c.html
[2] https://www.e-ir.info/2025/07/23/competitive-multilateralism-and-the-future-of-global-governance
[3]https://securityconference.org/en/publications/munich-security-report-2025
[4] https://www.cambridge.org/core/journals/american-journal-of-international-law/article/president-trump-begins-second-term-by-withdrawing-the-united-states-from-international-agreements-and-institutions-and-contravening-us-international-legal-obligations/31706905568737ED82A44E3FFFE48D7D
[5] https://government.economictimes.indiatimes.com/news/governance/brics-summit-2025-a-new-era-for-global-south-leadership-and-multilateralism/122288374
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال