بعد عدة عمليات استهدفت الجيش الصهيوني والمستوطنين، بدأت السلطة الفلسطينية وأجهزة الأمن الصهيونية تدرك أن ما يحدث يمكن أن يتحول إلى خطر حقيقي.
يبدو العنوان متفائلاً بعض الشيء، وبعيداً عن الحقيقة القائمة على أرض الواقع. ما زالت السلطة الفلسطينية صاحبة اليد الطولى في الضفة. ولا يوجد في المدى القريب ما يمكن اعتباره تهديداً جدياً لها، وخصوصاً من جانب مجموعات فدائية صغيرة أكثر راديكالية، لكنها لا تملك الموارد اللوجستية الكافية للاستمرار.
في الوقت نفسه، لا يمكن المرور على هذه التشكيلات العسكرية من دون التعمق في بنيتها، ودراستها كظواهر تشكل تمرداً وتحدياً صريحين للسلطات القائمة. في البنية التنظيمية، تحافظ هذه المجموعات على استقلال خلاياها في العمل تحت العنوان النضالي نفسه، من دون التحول إلى بنية تنظيمية تقليدية يسهل اختراقها. كما أن هذه المجموعات تتشكل من شبان في مقتبل العمر. إبراهيم النابلسي، مثلاً، كان أحد قادة كتيبة نابلس، وأحد أهم المطلوبين لسلطات الاحتلال، واستُشهد وهو لم يتجاوز 19 عاماً من عمره.
بدأ ظهور المجموعات المسلحة خلال معركة سيف القدس، لكنها كانت صغيرة وتفتقد أي شكل تنظيمي، فاعتمدت على أشخاص يعرفون بعضهم البعض من المخيمات، أو حتى من الحواري والأزقة. تطورت الأمور خلال معركة وحدة الساحات، فحركة الجهاد الإسلامي، التي شعرت بأن العدو يحاول الاستفراد بها، سعت للانفتاح على المقاومين الفلسطينيين في مدن الضفة، وكانت أول بوادر هذا الانفتاح في مدينة جنين. كما انفتح مقاتلو الحركة على عناصر من داخل أجهزة الأمن الفلسطينية.
في حزيران/يونيو 2021، قامت وحدة من عصابات الاحتلال باغتيال الشهيد جميل العموري، القائد في سرايا القدس. واشتبكت الوحدة الصهيونية مع ضباط من جهاز الاستخبارات الفلسطيني، ليرتقي الشهيدان أدهم عليوي وتيسير عيسى، من ضباط الجهاز، ويُصاب محمد البزور بجروح خطيرة. عَدّ كثيرون أن الاشتباك كان من قبيل الصدفة، إذ تمت عملية اغتيال الشهيد العموري قرب مبنى الاستخبارات العسكرية. جاءت الأيام التالية لتثبت أن الأمر يتجاوز الصدفة بكثير.
لاحقاً، تم تعريف جميل العموري بأنه المؤسس والقائد لكتيبة جنين المرتبطة بسرايا القدس، والتي تعمل مع أبناء التنظيمات الأخرى، وخصوصاً كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، لتشكيل مجموعة مسلحة تعيد إلى الأذهان مجموعة “حزام النار” التي تشكلت عام 2005.
على غرار كتيبة جنين، تشكلت كتيبة نابلس من مقاومين في كتائب شهداء الأقصى. بدأت القصة في شباط/فبراير 2022، عندما اغتالت وحدة كوماندوس صهيونية الشهداء: أشرف المبسلط، أدهم مبروكة ومحمد الدخيل، ونجا من العملية إبراهيم النابلسي. في تموز/يوليو من العام نفسه، عادت قوات الاحتلال واغتالت الشهيدين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبوح، زاعمةً أنهما عضوان في مجموعة “إرهابية” تسمى كتيبة نابلس. في الجنازة ظهر إبراهيم النابلسي ليؤكد انطلاق كتيبة نابلس. في 9 آب/أغسطس اغتيل الشهيدان إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح على أيدي عناصر قوات الاحتلال.
يوم 2 أيلول/سبتمبر، وفي أربعين الشهيدين محمد العزيزي وعبد الرحمن صبوح، ظهرت مجموعة من الشبان الملثّمين، الذين يحملون بنادق رُبِط في مقدمها شريط أحمر، وأعلنوا ولادة مجموعة مسلحة جديدة، اسمها عرين الأسود.
بعد عدة عمليات استهدفت الجيش الصهيوني والمستوطنين، بدأت السلطة الفلسطينية وأجهزة الأمن الصهيونية تدرك أن ما يحدث يمكن أن يتحول إلى خطر حقيقي، وأن تظهر مجموعات مماثلة في المدن الفلسطينية الأخرى. قامت السلطة باعتقال مصعب اشتيه من حركة حماس، والذي أصبح قائداً لمجموعة عرين الأسود، وعميد طبيلة، وهو أحد مناضلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ولا يزال محمد طبنجة، أحد قادة المجموعة وعضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مُطارَداً من أجهزة الأمن الإسرائيلية والسلطة.
لم تقم السلطة باعتقال أي من كوادر كتائب شهداء الأقصى، المنضوين تحت لواء عرين الأسود، على رغم أنهم يشكلون عمودها الفقري. فالسلطة، التي تخشى انشقاق هؤلاء المقاومين عن حركة فتح، وخصوصاً أن عدداً من هؤلاء المقاومين يعمل في أجهزة الأمن الفلسطينية، أو أبناء ضباط في هذه الأجهزة. وبدلاً من الاعتقال، قدّمت السلطة عرضاً إلى هؤلاء المقاومين، فحواه إلقاء السلاح وقبول إمضاء وقت قصير في سجون السلطة، ثم إلحاقهم بأجهزة الأمن الفلسطينية.
جاء الرفض مدوّياً. وخلال أسبوع، شهدت الضفة الغربية 40 عملية إطلاق نار، و66 عملية إلقاء عبوة متفجرة وزجاجة حارقة، وارتقى ثمانية شهداء فلسطينيين في مقابل قتل جنديين صهيونيين وإصابة 32 جندياً ومستوطناً بجروح.
في طولكرم أعلنت كتائب شهداء الأقصى تشكيل مجموعة صقور الكرامة، التي عدّت نفسها امتداداً لفكر الشهيدين ثابت ثابت ورائد الكرمي، القائدين الحقيقيين للانتفاضة الفلسطينية الثانية.
نستطيع رؤية ملامح أولية لما يحدث اليوم في الضفة الغربية، وخصوصاً بعد إعلان وزير أمن العدو، بيني غانتس، أن جيشه سيقوم بعملية واسعة في الضفة الغربية، هدفها الأساسي القضاء على مجموعة عرين الاسود. أهم هذه الملامح:
– أن المجموعات الجديدة تجاوزت البعد السياسي لمفهوم إنهاء الانقسام، والقائم على تقاسم الوزارات والموازنات، وأنهت الانقسام فعلياً، وفي ساحة المعركة.
– فتحت هذه المجموعات، من خلال بنيتها التنظيمية الفريدة، المجال للمقاومين الأفراد الرافضين لجميع الفصائل القائمة، من أجل الانخراط في العمل المقاوم من دون التخلي عن قناعاتهم، وتجيير عملهم لمصلحة المواجهة الشاملة مع العدو.
– الانخراط الواسع لشبيبة حركة فتح (كتائب شهداء الأقصى) في هذه المجموعات، الأمر الذي يضع سلطة رام الله في موقف محرج جداً، لأن المطلوبين هم أبناء حركة فتح، واعتقالهم من جانب السلطة، أو اغتيالهم من جانب العدو، يمكن أن يفجّر أزمة حادة وانشقاقات كبرى داخل الحركة.
– على رغم أن العمود الفقري للمجموعات الجديدة يتكون من مقاتلي فتح والجهاد الإسلامي، فإنها تضم مقاومين من حركتي حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الأمر الذي يشير إلى تحول هذه المجموعات إلى ظاهرة عابرة للتنظيمات.
القول أسهل من الفعل، والأمور على الأرض لا تسير بسلاسة التحليل على الورق، لكننا نستطيع القول إن البذور التي ألقتها العمليات الفردية في أرض فلسطين، نمت وأينعت أوراقاً وأشواكاً تنغرز في جسد المحتل وزبانيته. وإن العملية العسكرية الإسرائيلية المقبلة قد تؤدي إلى مواجهات عسكرية واسعة، وحروب شوارع في المدن والمخيمات الفلسطينية، وقد تمتد إلى بعض مناطق فلسطين المحتلة عام 1948. إذا حدث ذلك، ومهما تكن النتائج، فإن سلطة “أوسلو”، بما تمثله وبشخوصها، ستكون أُولى ضحايا الانتفاضة المقبلة.
عماد الحطبة
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال