تحرص الدول الخليجية طوال الثلاثين سنة الماضية تقريبا على تمييز أنفسهم عن العرب الآخرين، أو “عرب الشمال” تحديدا، ليس بامتلاكهم المال، والكثير منه فقط، وإنما من حيث قدرتهم على ضبط النفس، وعدم الاندفاع في الثورات والقرارات، واستقرار بلدانهم، والحفاظ على هويتهم الخليجية الجامعة.
ولكن إلقاء نظرة سريعة على منظومة مجلس التعاون الخليجي الإقليمية، والعلاقات بين بلدانها هذه الأيام تعكس صورة مغايرة كليا من حيث تفاقم الخلافات والصراعات بين أعضائها الستة، وتآكل وتبدد حلم الوحدة الخليجية التي كادت أن تتجسد في اتحاد كونفدرالي كخطوة أولى على طريق الوحدة الاندماجية.
نسوق هذه المقدمة، التي حرصنا أن تكون قصيرة، بمناسبة الخلاف السعودي الإماراتي المتصاعد، وظهوره إلى العلن هذه الأيام، وانتقاله بصورةٍ غير مسبوقة إلى منظمة “أوبك” واجتماعها الأخير في فيينا لاعتماد اتفاق سعودي روسي لرفعٍ متدرج للإنتاج بمعدل 400 ألف برميل يوميا حتى نهاية العام لتخفيض الأسعار حفاظا على استقرار الاقتصاد العالمي الذي يعاني من أزماتٍ طاحنة لعوامل كثيرة أبرزها انتشار فيروس الكورونا وحالات الإغلاق التي صاحبته في معظم الدول.
تلاسنٌ حاد، وغير مسبوق، انفجر في اليومين الماضيين على شاشات البلدين، بين الأمير عبد العزيز بن سلمان وزير النفط السعودي، ونظيره الإماراتي سهيل المزروعي، بدأه الأول، وعلى غير العادة، بانتقاد الإمارات لمعارضتها هذا الاتفاق منفردة، فرد نظيره الثاني، أي المزروعي مصحوبا باتهامٍ مبطنٍ للسعودية بمحاولة فرض رأيها وتقديم مصالحها على مصالح الآخرين، وقال إن بلاده أيدت دائما المواقف السعودية وقدمت تضحيات كبيرة، وأنها تريد الآن الحصول على حصة عادلة تتناسب مع تضحياتها واستثماراتها الضخمة في الصناعة النفطية تدر عليها عوائد أفضل.
***
الاحتقان بين البلدين ظل يتضخم طوال الأعوام الثلاثة الماضية على الأقل، وجاء الخلاف النفطي الأخير بمثابة المفجر له، ويمكن تلخيص أبرز نقاط الخلاف في النقاط التالية:
أولا: التنافس الاقتصادي بين البلدين الذي بلغ ذروته في سياسات الأمير محمد بن سلمان الانفتاحية، وإصراره على ترسيخ أسس اقتصاد سياحي منافس للإمارات، باتباع سياسة انفتاحية داخلية عنوانها الترفيه، وتحرير المرأة، وإقامة مدينة “نيوم” على البحر الأحمر شمال المملكة لتكون منافسة لدبي في كل شيء، وإذا علمنا أن 50 بالمئة من زوار دبي هم من السعوديين وأنه يمكن فهم جذور القلق الإماراتي.
ثانيا: المصالحة السعودية مع قطر التي هبطت على الإمارات هبوط الصاعقة، حيث جاءت اتفاقية “العلا” للمصالحة مطلع هذا العام، اتفاقية ثنائية بحتة بين الرياض والدوحة، وجرى طبخها من وراء ظهر حلفاء السعودية مثل البحرين وأبو ظبي وربما مصر أيضا، وكشفت الشهور الستة الأخيرة عن صحة مخاوف الإمارات بالنظر إلى تسارع خطوات المصالحة بين العاصمتين، أي الرياض والدوحة، وجمودها بالكامل، بل تدهورها بصورةٍ أكبر من قبل بين الدوحة وأبو ظبي، ومن يتابع قناة “الجزيرة” وبعض أذرع الإعلام القطري الأخرى يدرك ما نقول.
ثالثا: إصدار السعودية قرارا مفاجئا بضرورة نقل الشركات التي تعمل على أراضيها جميع مقراتها من الإمارات إلى المملكة، وأي شركة تخالف هذا الأمر سيتم الحظر على جميع أعمالها، وهذا يعني توجيه ضربة قاتلة للاقتصاد الإماراتي، وإمارة دبي على وجه الخصوص، لأن مقرات معظم هذه الشركات تتواجد فيها، ونسبة كبيرة منها سعودية.
رابعا: الغضب السعودي من قرار الإمارات الانسحاب من طرفٍ واحد من الحرب المشتركة في اليمن عام 2019، ودون التنسيق والتشاور المسبق، وذلك بسبب تفاقم حجم الخسائر البشرية في صفوف القوات الإماراتية، وتجنبا لتهديدات الحوثيين بقصف دبي وأبو ظبي بالصواريخ أسوة بالرياض وجدة، وتركيز أبو ظبي على السيطرة على الجنوب اليمني الخال من قوات “أنصار الله” الحوثية، ومنع حكومة المنفى اليمنية من العودة بشكلٍ كامل والاستقرار في عدن العاصمة الثانية، وتشكيلها المجلس الانتقالي الجنوبي وجيشه ليكون واجهتها هناك.
خامسا: تتهم الإمارات السعودية بدفعها إلى التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، والتعجيل بتوقيع اتفاقات “أبراهام”، في إطار تفاهمٍ سريٍ ملزمٍ مع الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، على أن تلحق الرياض بها، ولكن الأمير بن سلمان نقض الاتفاق وتراجع عنه خوفا من ردود فعلٍ سعودية داخلية، وخروج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عراب التطبيع، من البيت الأبيض، رغم أن الأمير بن سلمان التقى ببنيامين نتنياهو، ومايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي السابق، في “نيوم” لوضع الخطوط لاتفاق التطبيع، ولكنه انسحب وأنكر هذا اللقاء الثلاثي المذكور، وربما بضغطٍ من والده الملك سلمان الذي علم بالأمْر متأخرا.
***
من المفارقة أن الإمارات قد تسير على نهج خصمها القطري، أي الانسحاب من منظمة أوبك، وللسبب نفسه، أي الاحتجاج على الهيمنة السعودية على المنظمة، وعلى قرار الدول العربية الأعضاء فيها بالتالي، وقد لوحت أبو ظبي بهذا التهديد في اليومين الماضيين.
ومن غير المستبعد أن يصدر قرار في هذا الصدد في الأيام المقبلة، بالنظر إلى فشل لقاء يوم الاثنين وتمسك أبو ظبي بموقفها الرافض للاتفاق بزيادة الإنتاج قبل الاتفاق على زيادة حصتها.
اتفاق مصالحة “العلا” لم يفكك التحالف الرباعي الذي تأسس عام 2017 لحصار دولة قطر، وإنما مجلس التعاون الخليجي نفسه أيضا، وخرجت قطر الرابح الأكبر، بعد أن اعادت علاقاتها كاملة، وبشكلٍ متسارع مع مصر والسعودية، وخرجت الإمارات مهندسة هذا الاتفاق الخاسر الأكبر، وهذا ما يفسر حالة الغضب “المشروع” التي تسودها حاليا بعد أن تركها حليفها السعودي وحدها في ميداني التطبيع وحرب اليمن، ودون أن يتغير أي بند واحد من بنود اتفاق المقاطعة الرباعي، والأكثر من ذلك أن قناة “العربية” السعودية، ومقرها دبي، كسرت كل “المحرمات” وأجرت مقابلة مطولة مع السيد خالد مشعل رئيس حركة “حماس” في الخارج من مقره في الدوحة.
هل سترد الإمارات بإغلاق القنوات السعودية على أراضيها مثل “العربية” و”إم بي سي” في الأيام القليلة المقبلة في خطوةٍ انتقامية ثأرية .. لا نستبعد ذلك .. وسبحان مغير الأحوال .. والله أعلم.
عبد الباري عطوان/راي اليوم
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال