عودة أمريكا الحذرة إلى دمشق ! 303

عودة أمريكا الحذرة إلى دمشق !

في تطور ملحوظ ولافت يُعدّ دلالة على تغير نهج واشنطن تجاه دمشق أعادت الولايات المتحدة فتح مقر إقامة سفيرها في سورية بعد 13 عامًا من الإغلاق. تُعدّ هذه الخطوة دليلاً واضحًا على تغير نهج واشنطن تجاه سورية، ومحاولةً لترتيب التطورات المستقبلية في البلاد تحت إشرافها. كما تُمثّل فصلًا جديدًا في "العودة الأمريكية إلى سورية" وتسعى لتحقيق أهداف متعددة أهمها استغلال أجواء ما بعد الأسد وتوجيه مستقبل سورية السياسي بما يتماشى مع المصالح الغربية وخاصةً فيما يتعلق باحتواء النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة. استعادة تدريجية للدبلوماسية بأهداف استراتيجية كان إغلاق السفارة الأمريكية في دمشق عام 2012 ردًا على اندلاع حرب أهلية مدمرة. والآن وبعد أكثر من عقد من الزمان تُعيد واشنطن بحذر ولكن بإصرار فتح قنواتها الدبلوماسية مع الحكومة السورية الجديدة. ولا يقتصر الهدف الرئيسي من هذه العودة على الاستقرار الداخلي في سورية؛ بل إن جوهرها يكمن في استراتيجية كبرى لـ"هندسة نظام شرق أوسطي جديد". تُعتبر الحكومة الجديدة في دمشق التي تحتاج إلى دعم دولي لإعادة بناء سيادتها وترسيخها بعد سنوات من الصراع وعدم الاستقرار فرصةً للولايات المتحدة لتحدي نفوذ منافسيها الإقليميين والعالميين. يعتقد المسؤولون الأمريكيون أنه من خلال المشاركة الفاعلة في سورية الجديدة، يمكنهم منع تكرار سيناريوهات العراق وأفغانستان، حيث أدى فراغ السلطة إلى تقوية الجماعات المتطرفة أو نفوذ الدول المنافسة. ومن بين الأولويات الرئيسية لهذه الاستراتيجية توجيه التطورات السياسية نحو هيكل أكثر ديمقراطية (من المنظور الغربي) وأكثر انسجامًا مع المصالح الأمريكية، والأهم من ذلك الحد من دور إيران، التي كانت الداعم الرئيسي للحكومة السورية السابقة خلال سنوات الحرب.(1) دبلوماسية الطاقة ورافعة إعادة الإعمار تُعد دبلوماسية الطاقة إحدى الأدوات الرئيسية للولايات المتحدة لزيادة نفوذها في سورية. ففي الأسابيع الأخيرة وقّعت شركات أمريكية وقطرية وتركية اتفاقيات لإعادة بناء البنية التحتية للطاقة في سورية. هذه المشاريع التي تركز بشكل رئيسي على تحسين شبكة الكهرباء وتطوير حقول الغاز قد تزيد من اعتماد دمشق الاقتصادي على الغرب. تستخدم الولايات المتحدة هذه الأداة لتقليص دور روسيا وإيران في إعادة إعمار سورية. إذا نجحت هذه الخطة فقد تنأى سورية بنفسها تدريجيًا عن محور طهران-موسكو. مع ذلك يحذر بعض الخبراء من أن هذه الاستراتيجية قد تواجه رد فعل من جماعات المقاومة في سورية.(2) سورية جسر جيوسياسي ونظام أمني جديد لطالما كان موقع سورية الجيوسياسي كحلقة وصل بين إيران وحزب الله اللبناني وجماعات المقاومة الأخرى في المنطقة ذا أهمية كبيرة لطهران. إن تغيير التوجه السياسي في دمشق، وتزايد حضور ونفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في هياكل السلطة في البلاد، قد يُضعف هذا الجسر بشدة. إن إعادة تعريف دور سورية في النظام الأمني الجديد في الشرق الأوسط، بحيث تتحول البلاد من محور مقاومة إلى طرف محايد أو حتى موالٍ للغرب، هو أحد أهداف واشنطن طويلة المدى. في هذا السياق ثمة همساتٌ تُشجّع دمشق على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، على غرار ما حدث لبعض الدول العربية في إطار اتفاقيات إبراهيم. ورغم أن تحقيق "تطبيع العلاقات السورية الإسرائيلية" سيكون بالغ التعقيد ويستغرق وقتًا طويلًا، نظرًا لقضية الجولان والرأي العام السوري المناهض لإسرائيل، إلا أنه يُعتبر هدفًا مرغوبًا فيه في الأجندة الأمريكية.(3) دور الممثل الخاص والدبلوماسية بدون سفارة يتولى مكتب الممثل الخاص للولايات المتحدة في سورية، برئاسة توماس باراك مسؤولية قيادة هذه السياسة المعقدة ومتعددة الأبعاد. ويلعب باراك المعروف باتصالاته الإقليمية الواسعة ودبلوماسيته الهادئة، دورًا محوريًا في إقامة اتصالات مباشرة مع المسؤولين في الحكومة السورية الجديدة ونقل رسائل واشنطن. يمثل النهج الأمريكي الحالي، المتمثل في المشاركة الدبلوماسية وإعادة فتح رمزية دون تعيين سفير رسمي وسفارة كاملة استراتيجية حذرة لكنها تقدمية. فمن جهة تسعى واشنطن إلى توسيع نفوذها، ومن جهة أخرى تتجنب تحمل التكاليف السياسية والأمنية الكاملة لإعادة فتح السفارة رسميًا في وقت لم تستقر فيه سورية تمامًا بعد. كما يسمح هذا النهج للولايات المتحدة بالاحتفاظ بخيارات الضغط لنفسها في حال عدم توافق الحكومة الجديدة تمامًا مع المصالح الغربية.(4) تحديات سياسة واشنطن الجديدة على الرغم من التخطيط المُسبق للولايات المتحدة، تواجه السياسة الأمريكية الجديدة تجاه سورية عدة تحديات محتملة: 1. رد فعل الرأي العام العربي والإسلامي: إن التقارب المُفرط للحكومة السورية الجديدة مع الولايات المتحدة، وخاصةً إذا اقترن بضغوط لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، قد يُثير رد فعل سلبي واسع النطاق لدى الرأي العام في العالمين العربي والإسلامي. وقد يُعرّض هذا أيضًا شرعية الحكومة الجديدة داخليًا للخطر. 2. استياء الجماعات المؤيدة للمقاومة: لن تستسلم بسهولة القوى والجماعات في سورية التي حاربت إلى جانب إيران ومحور المقاومة ضد إسرائيل والنفوذ الغربي لسنوات طويلة للتحول الاستراتيجي لدمشق. ويُشكّل احتمال عدم الاستقرار الداخلي، أو نشوب صراعات محدودة أو حتى اللجوء إلى عمل عسكري من قِبل هذه الجماعات تحديًا أمنيًا خطيرًا. 3. صعوبة الحفاظ على التوازن: يجب على الولايات المتحدة الحفاظ على توازن دقيق بين الضغط على إيران لتقليص نفوذها في سورية وتجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع طهران. فأي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى تصعيد التوترات في المنطقة. روسيا رغم انشغالها بقضايا أخرى لن تتخلى كليًا عن مصالحها في سورية ويمكنها أن تلعب دور الطرف المُخرب. 4. انعدام الثقة: خلّفت سنوات الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي إرثًا من انعدام الثقة العميق بين الأطراف السورية المحلية والأجنبية. وسيكون كسب ثقة مختلف الأطراف وبناء توافق دائم حول مستقبل سورية أمرًا بالغ الصعوبة.(5) الخلاصة إن إعادة الافتتاح الشكلي لمقر إقامة السفير الأمريكي في دمشق أكثر من مجرد خطوة دبلوماسية بسيطة، هي بداية لعبة كبيرة ومعقدة لتشكيل مستقبل سورية، وبمعنى أوسع "هندسة نظام شرق أوسطي جديد". يعتمد نجاح هذه الاستراتيجية على عدة عوامل، منها مستوى الدعم للحكومة السورية الجديدة واستجابة الأطراف الإقليمية والدولية وقدرة واشنطن على إدارة التحديات المقبلة. بعد عقد من الدمار تقف سورية الآن على أعتاب فصل جديد ولكن ما إذا كان هذا سيكون ربيعًا من الاستقرار والازدهار أم استمرارًا لشتاء عدم الاستقرار لا يزال يكتنفه الغموض. ومن المؤكد أن "العودة الأميركية إلى سورية" تتم متابعتها بكل جدية وأن عواقبها ستؤثر على الجغرافيا السياسية للمنطقة لسنوات قادمة. محمد صالح قرباني 1- https://apnews.com/article/syria-us-ambassador-residence-ties-f0e22df744565ad6a6503c9c7d90972c 2- https://www.ainvest.com/news/syria-sanctions-relief-pivot-point-geopolitical-stability-emerging-market-growth-2505 3- https://stratheia.com/the-syrian-theatre-a-battleground-of-foreign-powers-and-strategic-maneuvering/ 4- https://www.nytimes.com/2025/05/29/world/europe/syria-damascus-envoy-barrack-israel.html 5- https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/after-assad-navigating-syria-policy-part-1
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال