غريشام وكاريش.. محاولة للفهم 30

غريشام وكاريش.. محاولة للفهم

“الهدف من الإستراتيجية العليا ليس البحث عن معركة، بل الوصول إلى وضع إستراتيجي ملائم، وإن لم يؤد بنفسه إلى النصر فورًا، فإنه يخلق الظروف الملائمة لمعركة تأتي بعده، وتنتزع النصر”. أستاذ الإستراتيجية الإنجليزي ليدل هارت.

إن أفظع جريمة يمكن أن تقدم عليها أمّة، هي أن تحوّل معاركها المصيريّة الكبرى إلى مناسبات جامدة، وأيام جافة لذكرى لا حياة فيها ولا روح لها، خاصة إذا ما كان الصراع لا يزال قائمًا. فالأمة بتصرفها هذا، وإن كان غير واعٍ، تخطو خطوتها الأولى إلى الهزيمة المؤكدة أمام عدوها، وتسلم مع عقلها كل إرادتها على الفعل القادر.

والمؤكد أن لبنان، وفي القلب منه ومن كل عربي، حزب الله، يقف اليوم في مواجهة عدونا الأول. ورغم أن الصراع الجاري يجري بعنوان حقل كاريش وتعيين الحدود البحرية للبنان لتمكينه من استغلال ثرواته من الغاز الطبيعي، وفي وقت تبدو الأزمة الاقتصادية طاحنة ومتعاظمة، إلا أن القراءة الصحيحة للموقف تقول إن “كاريش” هي مجرد صورة ضمن مشهد أكبر، ومحطة من محطات الصراع الوجودي بيننا – كعرب – وبين العدو الصهيوني، وخيط من جديلة الحرب المستمرة، منذ زرع الكيان الشيطاني في الأرض العربية 1948، وحتى اللحظة الآنية.

معركة كاريش ليست معركة بين الحروب، ولا هي اشتباك جانبي يجري بعيدًا عن مجرى الصراع العربي الصهيوني، وليس من المبكر ولا هو قول مشوب بالعاطفة، الجزم بأن “كاريش” باتت عنوانًا لصراع الحق كله ضد الباطل كله، وقبلها فهي معركة مصير، وسؤالها الأساس والأول هو: نكون أو لا نكون.

وعلى هذا الأساس، فقط، ينظر العدو ومن خلفه إلى معركة كاريش، فالخضوع فيها يعني، في ما يعنيه من نتائج مباشرة، الإيذان بالنهاية الحتمية، والنزول على إرادة حزب الله عندها لا يعني سوى قبول الكيان الصهييوني بنهاية عصر الردع، السلاح الأول والأجدر لدى الكيان، منذ قيامه وحتى اليوم، والتراجع أمام التهديد لن يتلوه إلا انسحاب أمام كل خطر، وانسحاق أمام أي عدو، قائم أو قادم.

كان مفهومًا أن يستنفر العدو أتباعه في الإعلام العالمي والعربي ضد حزب الله، وأن نجد أنفسنا فجأة أمام عاصفة من التشكيك والحيرة، في مناخ ملأته الظنون والأوهام، وأن يتفنن مقدمو الفضائيات في إلقاء قنابل الصوت والدخان والسخرية، للتعمية على فشل مشغليهم وأرباب نعمتهم في مواجهة التحدي، فالانكسار الصهيوني، وقد حدث فعلًا، يلقي بظلال كثيفة من الشك حول جدوى وجود واستمرار الأنظمة العربية التي توالي الكيان بكل ما تملك، وتراهن عليه بما لا تملك من مستقبل شعوبها ذاته.

وبدأت الأبواق الناعقة في استخدام فكرة اقتصادية قديمة وملهمة، صاغها القانوني الإنجليزي الشهير السير توماس غريشام مستشار الملكة، ووضعها في قانون سمي باسمه، قانون غريشام، وهي أن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق.

القانون الذي يبدو قاصرًا على التطبيق في حالة خاصة جدًا من الجانب الاقتصادي للحياة، وانحساره عن التطبيق في كل النظم الاقتصادية الحديثة، عاد إلى العمل، وعلى أوسع نطاق، عبر إعلام قرر أن ينشر الجهل ويحمل لواء الخديعة بكل ما أوتي من قوة وما توفر له من مساحات فضاء، قاصدًا في ذلك كله إلى نقل التركيز العام من أصل الصراع إلى أبعد ما يكون عنه، يريد من هذا طمس وجه الحق في القصة كلها، وتحويل الواقع الحقيقي الذي جرى ويجري أمام أعيننا إلى مطية للأحقاد وأداة من أدوات مخطط مرسوم بدقة لإعادة ترميم العقدة الصهيونية.

ما حدث، وعايشناه ورأيناه رأي العين، أن حزب الله قد أخذ زمام المبادأة من الكيان في مشهد كاريش، وضع شروطه وقواعده أمام العالم كله، وفرضها بإرادته الحرة، وانتزع بالتالي الحق في الفعل، والذي احتكره الكيان منذ قيامه، والذي كانت الولايات المتحدة حريصة على توكيده وتثبيته، بكل ما توافر لها من سبل قوة خشنة وناعمة، وكل ما تملكه من إمكانيات الجبر أو الإيذاء، ولم يقدم قادة الكيان أو جيشه إلا التردد والجبن والتراجع المساوم.

هذا النصر الإلهي بيد حزب الله، قد تحقق على الأرض وانتهى المشهد، سواء قرر الطرفان أو أحدهما اللجوء إلى السلاح في اللحظة الأخيرة، فالكيان الذي لجأت حكومته لأول مرة إلى مسار تفاوضي بدلًا عن فرض ما تريده بالقوة وحدها، قد تراجع إلى مستوى حكام الدول العربية المطبعة، ويا للغرابة والقرف.

أما حديث الإعلام المتصهين، والذي يرفض -مبدئيًا- الاعتراف بوجود معركة، وإن اعترف بالصراع فإنه يرفض إسباغ وصف النصر على ما تحقق على يد الحزب الإلهي، فإنه يعيد بالضبط تكرار تمثيل مشاهد سقوط الإعلام المصري الرسمي، في عهد الخائن الأول السادات، وفي العهود الكئيبة لمن بغير إحسان في طريق التبعية والذل.

الرسالة الإعلامية تحاول توصيل يقين لكل متابع، وهو أن الكيان وحش كاسر متفوق، لا يقهر، ولا يتراجع، وأن المقاومة نوع من النزق المجنون لمجابهة ما لا طاقة للناس به، وسعيًا محمومًا وراء الحرب والدمار، وأن طريق التحدي للكيان ومن ورائه أميركا، لا طائل منه غير الموت المحتم.

جرب الإعلام الرسمي المصري هذه الوصفة منذ العام 1974، وحتى اليوم واللحظة، ولا يزال مستمتعًا بترويج تلك الخرافات عن القوة الصهيونية التي لا تغلب، والإرادة الأميركية التي لا ترد، وقد وقف السادات في مجلس شعبه، ليقول إنه اكتشف أنه ظل 10 أيام يحارب أميركا، ويتساءل أمام الحضور: “هل أنا أد -مثل- أميركا”.

هذه الدعاية السوداء استمرت لسنوات في الضغط على الوعي العام والوجدان الجمعي للمصريين، حتى وصلنا إلى قناعة يرسخها نظام كامب دافيد بأن السلامة في الدنيا والرغد في العيش هما نهاية طريق السلام وبيع القضية الفلسطينية والتخلي عن كل ما يمت للأمة بصلة، وتم تحويل يوم السادس من تشرين الأول/ أكتوبر، إلى ذكرى موسمية، تعج بكلمات تافهة عن تمجيد كل من خان وهان وفرط، وتفقد بالتالي موقعها في قلب الناس ووعيهم.

إذا كان طريق السلام لا يزال خيارًا للبعض، وفوق ذلك، يحاولون تمريره للشارع، فنظرة واحدة على مصر الرسمية، التي اعتبرت أن أكتوبر هو آخر الحروب، وأن الرخاء سيأتي مع السلام، كافية لتبيان أين كانت تقف مصر، حين كانت تدفع تكاليف الدور العربي والإسلامي، وفي مقابله يتمدد تأثيرها وتتوطد أركان تزعمها للأمة، وأين تقف اليوم.

اليوم، تقف مصر على باب صندوق النقد الدولي، باحثة عن قرض ضخم، لمواجهة عجز الموازنة التي اتسع خرقها على الراتق، ففي الوقت الذي تبلغ فيه كل الإيرادات العامة للدولة 1.5 تريليون جنيه مصري، تصل مصروفات وفوائد الديون الضخمة التي ابتلعتها المشاريع الوهمية على رمال الصحراء ما يزيد عن 1.66 تريليون جنيه، وما هو أوقح من الإفلاس، هو أن الناس سيضطرون لدفع هذا الفارق المروع من دخلهم الحقيقي، إذا ما مضت الحكومة في تنفيذ الشرط المعلق للصندوق بخفض جديد للعملة المحلية، ما يزيد من حجم وعمق الفقر المتفشي أصلا في مصر، بصورة تفوق دولا خاضت عدة حروب، مثل العراق وسوريا ولبنان.

 

المصدر: العهد

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال