فلسطين تلتهب والكيان الصهيوني يتهيب التصعيد 24

فلسطين تلتهب والكيان الصهيوني يتهيب التصعيد

كان صانع القرار السياسي الإسرائيلي مدركا جيدا، منذ قيام الكيان في أيار من العام 1948، لحقيقتين بدتا راسختين لديه، أولاهما أن «السلام» المتولد عن توقيع اتفاقات تحمل هذا الاسم مع دول الجوار العربي سيكون وهما ما لم تكن له تمدداته في النسيجين المجتمعي والثقافي لتلك الدول، وثانيهما أن الذات العربية، بكل مكوناتها، تقف في واد بعيد عن ذلك الوادي الذي تقف فيه أنظمتها.

من الممكن تلمس ذلك الرسوخ، لتينك الحقيقيتين، في السياسات التي اعتمدها الكيان على امتداد 74 عاما، هي عمر انغماسه خنجرا بين ظهراني التلاقي العربي القادر، فيما لو حصل، على التأسيس لحالة نهوض ترقى بمجتمعاتها إلى مصاف الدول التي ارتسمت لنفسها سبيل النجاة، والفعل، أي تلمس الرسوخ، يبرز، أكثر ما يبرز، عند المنعطفات التي تعددت في مسار الصراع العربي الإسرائيلي حتى ليكاد ذلك المسار أن يكون أشبه بطريق حلزوني لا تكاد تلحظ فيه قطعة مستقيمة واحدة، فتل أبيب راحت، مثلا، ما بعد توقيع اتفاقيتي «كامب ديفيد» مع مصر عامي 1978 و1979 تجهد في إيقاظ التراث والثقافة الفرعونيين، الفعل الذي سيمثل سدا داعما للسياسات الرامية إلى عزل مصر عن محيطها، ودفعها إلى الانكفاء وراء حدودها، مما يفقدها ثقلها ويفقد المحيط أيضاً عمقا استراتيجياً مخلاً بتوازن القوى، ثم راحت، ما بعد مؤتمر مدريد الذي انعقد في أعقاب حرب الكويت العام 1991، تجهد مرة أخرى في محاولة اختراق النسيج الثقافي العربي، لتنجح في «مؤتمر غرناطة» الذي انعقد أواخر العام 1993 في الجمع بين نخب عربية وإسرائيلية، كان هذا المؤتمر الأخير إسناديا للأول، حتى إن المفاوضات التي أعقبت مؤتمر مدريد كان وقعها يسير تبعا للنتائج المستخلصة من مؤتمر غرناطة، وعلى الرغم من أن هذا الأخير كان قد ضم نخباً عربية من شتى الأقطار، وهي كانت في خطابها أقرب لقبول إسرائيل كجزء من النسيج القائم في المنطقة، إلا أن النظرة الإسرائيلية في تقييم تلك التجربة جاءت لتؤكد أن تلك «النخب» لا تمثل أكثر من جزر معزولة، بل ذهبت التقديرات الإسرائيلية في حينها للقول إن التأثير الذي كانت تمارسه تلك النخب في محيطها سابقاً سوف يضمحل ما بعد «غرناطة 1993» التي وسعت الشرخ ما بين هؤلاء وبين محيطهم الفاعلين فيه.

جاءت اتفاقات «أوسلو» 1993 و«وادي عربة» 1994 لتمنح الكيان بعضاً من الاسترخاء الأمني الذي ظلت ركائزه محصورة في النجاحات التي قادت إلى ضبط إيقاع الأنظمة، فيما فعل نظير له يختص بالشارع بدا بعيد المنال، هذا إن لم يكن الفعل الأول قد قاد إلى جعل هذا الأخير مستحيلاً، والأمر عينه كان ينطبق على موجة التطبيع الثالثة التي جرفت معها أربع دول عربية للمسارات سابقة الذكر.

في الغضون سعت تل أبيب إلى توسعة «بيكار» الاحتكاك عبر مسعى تمظهر بحالة «التماس» الاقتصادي الذي رأت أنه من النوع القادر على تخفيف حالة العداء القائم خصوصاً أن هكذا نوع من الاحتكاكات سوف تشد معها نخبا مجتمعية هي في جلها تمارس دوراً اقتصاديا، إذ لطالما كان من الثابت تلازم الدورين المجتمعي والاقتصادي خصوصاً في مجتمعات، كمجتمعاتنا، لا يزال يلعب ذلك التلازم فيها دوراً مهماً لجهة التأثير في تركيبتها وطريقة إدارة الدفة فيها.

لا يستقيم فهم السياقات الجارية في المنطقة، وفهم دوافعها، بدءاً من اتفاقات «ابراهام» ومرورا بقمم القدس وشرم الشيخ ثم وصولا إلى قمة «سديه بوكير» بالنقب المحتلة أواخر شهر آذار الماضي، ثم فهم اللهيب المندلع، بشكل متصاعد، على الأراضي الفلسطينية كنوع من الرد على السياقات السابقة، نقول لا يستقيم فهم الفعل ورد الفعل الذي ترصده تلك الثنائية إلا عبر الجزم بأن المنطقة الآن أمام خطوط دفاعها الأخيرة، فالمؤكد هو أننا خسرنا في ميادين القتال، وكذا خسرنا في ميادين السياسة التي لم نستطع عبرها جني المكاسب كنتيجة للفعل الأول، وما تبقى أمامنا هو ميادين الثقافة والفكر المختزنين في ذات الأمة، فإذا ما كانت الأنظمة قد ارتأت أن إبرام اتفاقات أمنية ومعاهدات «سلام» مع هذا النسيج المنغرس قسرا بين أحشائها، انطلاقا من أن الفعل كفيل بتأمين الاستقرار في دواخلها ومنحها فرصة لالتقاط الأنفس، فإن من المؤكد أن للقوى والتيارات الغالبة، والحافظة للذات، رأياً آخر.

سياق آخر، يمكن له أن يفضي إلى توسعة منظار الرؤية، فواشنطن كانت قد اتخذت قبل سنوات قرارا استراتيجياً يقضي بالتخفيف من أعباء الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط التي وصفتها بـ«اللامنتهية»، والقرار سوف يتعزز في سياق المواجهة الحاصلة راهنا ما بين روسيا والغرب في أوكرانيا، هذا التخفيف سيؤدي إلى تراجع الهيمنة الأميركية وخلق فراغات لا توجد قوى دولية، راهنا، مهيأة لملئها، الأمر الذي دفع بقوى إقليمية لخوض تجربة ملء تلك الفراغات عبر التلاقيات التي تمثلها القمم المتوالية سابقة الذكر، واللافت في هذه الأخيرة هو أن مراكز أبحاث إسرائيلية كانت قد اعتبرت أن اجتماع النقب 27 آذار الماضي دليل على نجاح «الانغراس» الإسرائيلي في نسيج المنطقة، بل مقدمة للعب دور محوري في التحولات الجارية عليه، دون أن تغفل، تلك المراكز، أن الفعل جاء في سياق التحشيد ضد إيران التي ضربت موعدا مع دور إقليمي بارز غداة العودة إلى اتفاق فيينا 2015 الذي بات أمرا محتوما.

مرة أخرى كانت «الذات» هنا تشكل حالة دفاعية وقائية في مواجهة تلك التلاقيات، والرد جاء سريعا في «بني براك» و«جنين» التي أحجمت فيهما تل أبيب عن التصعيد الذي اعتادت عليه في مثل هكذا حالات، والراجح، والحال هكذا، أننا سنشهد قريبا طبعة ثانية من «سيف القدس» التي شهدنا طبعتها الأولى شهر رمضان من العام المنصرم.

 

المصدر: الوطن

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال