في الحادي عشر من آب 1840، وبعد القضاء على حكم محمد علي في الشام، كتب اللّورد هنري بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني حينها، للسفير البريطاني في الآستانة، اللورد جون بونسونبي، الرسالة التي ستصبح لاحقاً مرجعية أساسية لفهم معنى وحقيقة وعد بلفور، يدعوه فيها لتشجيع السلطان العثماني عبد المجيد للسماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين:
«ينتشر في الوقت الحالي بين اليهود المتناثرين في أوروبا فكرة قوية (تتمثل في) أن وقت عودة أمّتهم إلى فلسطين تقترب. ومن المعروف جيداً أن اليهود في أوروبا يملكون الكثير من الثروة، وغنيّ عن القول أيضاً أن البلد الذي سيختار أي عدد منهم الاستيطان فيه سيستفيد كثيراً من الثروة التي سيجلبونها معهم. إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين، تحت حماية ووصاية السلطان، سوف تشكّل حاجزاً في وجه أي مشروع شرّير في المستقبل لمحمد علي أو لخليفته. وحتى لو لم يكن تشجيع السلطان سيقود عملياً إلى استيطان عدد كبير منهم في حدود الإمبراطورية العثمانية، يبقى أن مجرد إصدار قانون لمصلحتهم سيؤدي لتطور ميول صديقة نحو السلطان بين اليهود في أوروبا، ولسوف ترى الحكومة التركية على الفور كم سيكون مفيداً لأهداف السلطان الحصول على أصدقاء مفيدين في عدّة بلاد بمجرّد إصدار مرسوم واحد» (ليونارد ستاين، وعد بلفور، ص: ٦. الترجمة بتصرف). ربّما كان بالمرستون يُدرك أن ذكرى اتفاقية «كوتاهية» التي وضعت حدود مصر (أو الدولة العربية الناشئة حينها) عند مضيق كولك بجبال طورس، لا تزال تؤرق السلطان عبد المجيد (وقّعها والده محمود الثاني في 8 نيسان 1833).
وربما كان يدرك أيضاً أنه لا يزال يذكر الهزيمة الكبرى التي مُنيت بها السلطنة على يد العرب، وكيف سحق المصريون جيش السلطنة قبل تسلّمه (عبدالمجيد) الحكم بأيّام فقط (بعد وفاة أبيه) في معركة نصيبين (24 حزيران 1839). لكن إلحاح بالمرستون على فكرة «الحاجز» الذي يمكن أن يشكله استيطان اليهود لفلسطين في وجه أي مشروع مصري مستقبلي للتمدد شمالاً وشرقاً، لم يكن يؤشّر لقلق إمبراطوري من دور مصري محتمل فقط، بل عَكَسَ كذلك، كما سيتضّح من الرسائل اللّاحقة، إصراراً بريطانياً على عدم التساهل مع أي هيمنة فرنسية محتملة جنوب حدود لبنان، يمكن لها أن تشكل تهديداً لقناة السويس، شريان حياة الإمبراطورية حينها وممرّها إلى الهند. فبعد مرور أقل من شهر على الرسالة الأولى، سيُعيد بالمرستون الكرة مجدداً ويكتب لسفيره في الآستانة (في 4 أيلول/ سبتمبر 1840) رسالة ثانية يَعِدُ فيها السلطان العثماني هذه المرة بأن «تجاوبه (مع الطلب السابق) سيُكسبه أيضاً حسن نية الحزب المتدين في هذه البلاد، كما سيُغني الإمبراطورية (العثمانية) باجتذابها لمهاجرين أغنياء» (المصدر السابق، ص:6-7). لكن حقيقة إصرار بالمرستون وأسبابه تتضّح أكثر بعدها بخمسة أشهر في رسالته الثالثة (4 شباط/ فبراير 1840) حين يُضيف، ويؤكد، أن اليهود « في حاجة إلى الإحساس بالأمان في حال استيطانهم فلسطين». ولهذا اقترح أنه يجب «أن يتمكّنوا من الاعتماد على الحماية البريطانية، وأن يتمكّنوا من إرسال شكاويهم إلى الباب العالي عبر السلطات البريطانية» (المصدر السابق، ص: 7). بهذا المعنى، كانت بريطانيا تسعى للحصول على محمية بريطانية شرق قناة السويس تخوّلها الحق في التدخّل في حالة كان هناك أي تهديد للوضع القائم حينها شرق القناة، والتي كانت فرنسا تعمل على تغييره لصالحها، وهو ما تصاعد لاحقاً أثناء الحرب العالمية الأولى بالذات، وربّما عجّل في صدور وعد بلفور (صدر الوعد في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، أي قبل سقوط القدس بأكثر من شهر في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1917). مثل باقي أعضاء النخبة الإمبراطورية البريطانية اللاحقة، التي حكمت بعد رسالته الأولى بسبع وسبعين عاماً، وكانت مسؤولة عن إصدار وعد بلفور، لم يكن بالمرستون مدفوعاً بأي حرص على اليهود في الحقيقة، بقدر ما كان محكوماً بالمصالح والهيمنة الإمبراطورية – هذا، طبعاً، عدا عن زيف ما ورد في رسالة بالمرستون حينها عن رغبة يهودية جامحة بـ«العودة» لفلسطين. فهذه الفكرة الصهيونية لم تكن قد وُلدت بشكل منظّم بعد. على العكس، فأغلبهم (بمن فيهم بلفور ذاته) لم يتورّع عن إظهار معاداته العلنية للسامية حتى في حضور قادة الحركة الصهيونية. فهو بلفور، مثلاً، صرّح لحاييم وايزمن وبلا خجل «مشاركته للألمان في العديد من المسلّمات اللّاسامية»، كما ورد في إحدى رسائل وايزمن (ص: 154)، وهو بلفور، أيضاً، كان المسؤول الأول كرئيس للوزراء عام 1905، عن إقرار حكومته لـ «قانون الأجانب» الذي مُنعت بموجبه هجرة اليهود من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا. أما لويد جورج، وحتى مارك سايكس، اللذان لعبا دوراً مهماً جداً في صدور «الوعد» فكان رفضهما لاندماج اليهود (في أوروبا) كحل للمسألة اليهودية، وقبولهما بالأفكار العنصرية التقليدية عن اليهود غير سرّي على الإطلاق، كما يشير ستاين (لا سامية بلفور واضحة وفاقعة حتى في المقدمة التي كتبها لكتاب ناحوم سوكولو «تاريخ الصهيونية 1600 – 1918» ــ ص: xxix – xxxiv ).
اللافت أن وايزمن (الصهيوني) أشار إلى توافقه التام مع قناعات بلفور اللّاسامية أعلاه، وكأنه يؤكّد، كما كتب ليونارد ستاين، «أن الصهيونية والمعاداة للسامية» هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. ربّما لهذا السبب بالذات اختار قادة الحركة الصهيونية توصيف تلك النخب الإمبراطورية التي ساندت مشروعهم في استعمار فلسطين بـ «الصهاينة» أو بـ«المتحولين للصهيونية»، وليس باللّاساميّين. فكل ما صرّح به هؤلاء علناً أو كتابة عن عدم إمكانية وعدم جدوى اندماج اليهود في أوروبا، وحتى عن التعامل معهم والنظر إليهم كغرباء، وكل اللّاسامية التي حملتها عبارات بلفور ولويد جورج (رئيس الحكومة التي أصدرت الوعد) ومارك سايكس، وحتى بالمرستون قبلهم، تتّفق تماماً مع مبادئ الصهيونية الأساسية. فالصهيونية قائمة أصلاً على رفض فكرة الاندماج ولهذا تستدعي أقبح ما في اللّاسامية من أفكار لتأكيد وجهة نظرها. ففي واحدة من الأدبيات الصهيونية الكلاسيكية الثلاث الأهم («دولة اليهود» لهرتزل، «التحرير الذاتي» لليو بنسكر، و«روما والقدس» لموسى هس)، نقرأ، عند موسى هس، ما يلي:
«اليهودي المتحوّل يبقى يهودياً، بغض النظر عن مدى اعتراضه على ذلك. اليهودي واليهودية يسعيان وبلا جدوى لطمس/ اجتثاث أصولهما من خلال التحوّل أو التزاوج مع الأعراق الهندية ــ الألمانية والمنغولية، لكن النوع اليهودي غير قابل للتدمير. أنوف اليهود لا يمكن إصلاحها، وشعر اليهودي الأسود المتموّج لن يتغير من خلال تحوله للون الأشقر ولا يمكن تقويم تجاعيده عبر التمشيط المستمر» (موسى هس. روما والقدس: دراسة في القومية اليهودية. ص: 59. الترجمة بتصرف).
فيما يخصّ العرب، تظهر النقاشات الصهيونية ـــ البريطانية وتبادل مسودات «الوعد» الأربع التي سبقت النص النهائي (المسودة الخامسة) الذي تم إقراره ونشره حتى تفوق العنصرية الصهيونية. فالمسودة الأولى التي اقترحتها المنظمة الصهيونية في تموز 1917 لم تتضمن أي ذكر على الإطلاق للفلسطينيّين، وفوق كل ذلك كانت تضع نفسها في موقع مساوٍ للحكومة البريطانية فيما يخصّ «نقاش الوسائل لتحقيق الهدف». كذلك، خلت كل من المسودة الثانية والثالثة (آب 1917) من أي ذكر لـ «الحقوق الدينية والمدنية للجماعات/ الجاليات» التي تقطن فلسطين، حسب توصيف النص النهائي لـ «الوعد». أما المسودة الرابعة (4 تشرين الأول 1917) التي يرد فيها ذكر الحقوق «المدنية والدينية» للمرة الأولى، فتشمل أيضاً بنداً إضافياً يتضمن تعهداً بحماية حقوق المواطنة لليهود (وليس فقط الحقوق الدينية والمدنية) في الدول الأخرى (حماية لهم من أي تمييز ضدهم في أعقاب تنفيذ الوعد إن هم اختاروا البقاء حيث هم)، فيما يستمر التعديل/ الجدل فقط في كل المسودات حول دور الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية في تنفيذ هذا الوعد. النسخة النهائية من النص، والتي يعرفها العالم، تم الاتفاق عليها بعد أربعة أشهر من المسودة الأولى، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1917 (للنصوص الأولى، أنظر شتاين، ص: 646). يذكر نورمان فنكلستين في «صناعة المحرقة» أن همّ القيادات والمنظّمات اليهوديّة في أميركا بعد الحرب العالميّة الثانية كان الانخراط في السياسة الخارجيّة الأميركيّة، التي كان عنوانُها الأساس «محاربةَ الشيوعيّة»، إلى درجة تأييد إعادة تسليح ألمانيا وحتى غضِّ النظر عن التراجع الرسميّ الأميركيّ عن سياسة استئصال الميول النازيّة في ألمانيا والعمل أيضاً على احتواء موجة معاداة ألمانيا بين اليهود (ص: 14ــ 15 ). لكن الحقيقة أن القضية بدأت قبل الحرب العالمية الثانية، وتعود تحديداً إلى وعد بلفور. ففي الثالث من أيلول/ سبتمبر 1917 استشارت الحكومة البريطانية الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في إصدار بيان تعاطف (الوعد) مع الحركة الصهيونية، فأجاب بأن الوقت «غير مناسب»، بسبب ظروف الحرب العالمية. لكن حين سُئِلَ بعدها بشهر (في السادس من تشرين الأول/أكتوبر)، أجاب هذه المرة بضرورة إصدار الوعد.
الجدل بين المؤرّخين يدور فقط حول سبب التغير السريع لموقف الرئيس خلال شهر واحد فقط، وليس حول الموقف ذاته، فالرئيس أصلاً لم يرفض فكرة الوعد، ولكن كان يعتقد أن الوقت غير مناسب فقط. لهذا يؤكّد بعض المؤرّخين على دور أساسي لعبه قاضي المحكمة العليا حينها لويس برانديز (أول قاضي يهودي أميركي في المحكمة الأميركية العليا) في إقناع الرئيس، مستندين أساساً إلى التواصل بين جايمس روثتشايلد في بريطانيا، والذي صدر الوعد باسمه، ولويس برانديز بخصوص الوعد – ربما يكون أهم تواصل هو كابل أرسله روثتشايلد لبرانديز في 25 نيسان/ أبريل1917 يحثّه فيه على تأمين دعم الرئيس الأميركي للوعد. أما البعض الآخر فيُشير لدور محوري لمستشار الرئيس المُكنّى بالكولونيل إدوارد هاوس ـــ ومع أن البعض يتهمه باللّاسامية، لكن ذلك لم يمنع العصابة الإنكليزية العنصرية من إصدار الوعد، كما رأينا أعلاه. ربما يكون برانديز فعلاً قد حثّ الرئيس ويلسون على تأييد الوعد، وربما يكون الكولونيل هاوس أيضاً فعل ذلك، لكن هذا لوحده لا يفسّر قرار الرئيس النهائي، خصوصاً على أعتاب نهاية الحرب العالمية الأولى، إعادة تقسيم العالم، وصعود الإمبراطورية الأميركية كقوة مهيمنة جديدة.
لم تكن بريطانيا وحدها خلف الوعد إذن، ولم تكن خلفه الحركة الصهيونية في بريطانيا وأوروبا فقط، كما هو سائد. ما يهم، بعد أكثر من قرن، هو إدراك أن وعد بلفور لا يمثل لحظة الولادة الحقيقيّة لمشروع الدولة الصهيونية على أرض فلسطين العربية كمشروع إمبريالي غربي أساساً، لكنه يمثّل أيضاً الرابط التاريخي الملموس و ــ ربما ــ الأول بين الصهيونية السياسية والإمبريالية الغربية.
المصدر: الأخبار
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال