قبل الطوفان وبعده.. دول عربية تستكثر حتى الفتات على الفلسطينيين
شكلت القدس منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 أساساً مهماً للموقف العربي والإسلامي تجاه قضية فلسطين، كما شكلت نقطة انطلاق دائمة لانتفاضات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال منذ يوم الأقصى عام 1976 حتى انتفاضة القدس عام 2015 إلى ملحمة الطوفان القائمة حالياً.
وبرغم الجهود الدولية والعربية لمنع "إسرائيل" من ضم القدس أو تهويدها، غير أن قيادات الاحتلال من كل الاتجاهات اليسارية واليمينية بكل تلاوينها اعتبرت القدس عاصمة "إسرائيل" الأبدية، واتخذ الكيان قراراً بضمها منذ العام 1980، غير آبه بقرارات مجلس الأمن الدولي باعتبارها أرضًا محتلة، حيث لم تعترف أي دولة في العالم بهذا القرار الإسرائيلي حتى الآن، وتعامل العالم مع الأمر الواقع دون إقراره بالضرورة.
كما إن ما يسمى اتفاقيات "السلام" العربية من "كامب ديفيد" عام 1978 إلى "أوسلو" عام 1993 إلى "وادي عربة" عام 1994 لم تحقق أي إنجاز سياسي أو قانوني يُذكر لحماية المدينة والمحافظة عليها عربية إسلامية، واستمرت "إسرائيل" سياسات التهويد والاستيطان في قلب المدينة ومحيطها وتوسيع حدودها الجغرافية وضم الجزء الشرقي منها مع الغربي، وتفريغها من السكان العرب المسلمين والمسيحيين على حد سواء عِبر مشروع كبير تلو مشروع غير آبهةٍ بمواقف جامعة الدول العربية ولا منظمة المؤتمر الإسلامي ولا مجلس الأمن الدولي ولا الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا القانون الدولي ولا ما يُعرف بالشرعية الدولية.
وظل الموقف العربي ضعيفاً هزيلاً في مواجهة هذه السياسات، وظل العرب والفلسطينيون الرسميون يقذفون بقضية القدس إلى المستقبل وهم يمارسون دعم بقاء "إسرائيل" وتطبيع العلاقات معها بتوقيع اتفاقات "السلام" معها، ورهن البعض الأمر إلى ما عُرِف بمشروع جون كيري الذي فشل في إنجاز أي شيء بما في ذلك ما يتعلق بحماية القدس لأكثر من عام رغم جولاته المكوكية حيث أعلن فشله رسميا في نيسان 2014.
ولذلك لم يكن للواقع العربي الرسمي دور حقيقي في التأثير على سياسات "إسرائيل تجاه القدس والأقصى منذ عام 1967 وحتى اليوم برغم الاعتراف بالجهود الدبلوماسية الدولية في استصدار القرارات والإدانات وتطبيق المقاطعة منذ العام 1948 حتى عام 1993، وكذلك ما يتعلق بعدم تحقيق الاعتراف الدولي بضم القدس لـ "إسرائيل" أو الاعتراف بأنها "عاصمة" لها.
واستمرت "إسرائيل" بتطبيق ما عُرِف بمشروع "زاموش" منذ العام 2002، والهادف إلى محو الهوية العربية الإسلامية للمدينة بحجة التطوير للسياحة، إضافةً إلى عمليات منظمة لاقتحام المسجد الاقصى وتقسيمه مكانياً وزمانياً واحتلال بيوت الفلسطينيين في المدينة وطرد سكانها منها وهدم بيوت أهلها ومنع ترميمها.
صحيح أن العالم لم يعترف بعد بالقدس عاصمةً لـ"إسرائيل"، لكنه كذلك لا يعترف بأنها عاصمة الدولة الفلسطينية، ولذلك فإن التحرك السياسي الفلسطيني والعربي يُعاني اليوم من فقدان الأوراق الضاغطة على "إسرائيل" والمجتمع الدولي بما يحفظ هوية القدس والأقصى.
فهو "أي التحرك السياسي والعربي الفلسطيني" يعترف بدولة "إسرائيل" من جهة ، ولا يؤمن بالحرب معها بل أسقط خيار الحرب استراتيجيًا، وتقوم بعض الأطراف بالتنسيق الأمني مع الاحتلال ضد أي عمل مقاوم مشروع، وافتتحت "إسرائيل" لها ثلاث سفارات وأكثر من أربعة مكاتب تمثيل في البلاد العربية فقط، وتراجعت مواقف وسياسات الجامعة العربية بمقاطعة كيان الاحتلال، ووقع العرب والفلسطينيون في فخ المفاوضات الثنائية مع الاحتلال والتي لم تُعِد للفلسطينيين أيًّا من حقوقهم، ولم تُعِد بقية الأراضي العربية المحتلة إلى السيادة العربية.
كما أنها لم تمنع الاحتلال من شن الحروب على لبنان وغزة وضرب أراضي عربية في سوريا والسودان وعمليات اغتيال قادة فلسطينيين في سوريا ولبنان والأردن، ولذلك لا تشعر "إسرائيل" أنها مضطرة حتى لمجاملة العرب والفلسطينيين ورفع الحرج عن القيادات العربية أمام شعوبها، وفي نفس الوقت فإن الإرادة العربية في منع "إسرائيل" أو وقفها عند حدها في هذه الإجراءات التهويدية مشلولة بالكامل، واستسلمت للآلية الدولية التي تتبنى "إسرائيل" وتعتبر عدوانها على جيرانها "دفاعًا عن النفس" حتى لو قتلت الآلاف الأطفال والنساء ودمرت البيوت وأطبقت الحصار الاقتصادي والإنساني على ملايين الفلسطينيين، بل ومنعت المصلين المسلمين من الصلاة في المسجد الاقصى مراراً وتكرارًا بحجج غير منتهية ومتجددة.
وإذا كانت بيانات الأمم المتحدة بل وقرارات مجلس الأمن الدولي لأكثر من عشر مرات، وتوقيع اتفاقات" السلام"، وتطبيع العلاقات والتنسيق الأمني مع الاحتلال لحمايته عبر الحدود وفي الداخل الفلسطيني، وربما أوسع من ذلك لم يتمكن من تحقيق أي نوع من الحماية أو التقليل من آثار العدوان والإجراءات الإسرائيلية بحق المدينة والمقدسات؟، وإذا كان العالم لا يستشعر أي مسئولية جادة تجاه ذلك؟ بل يدعم حليفه الاستراتيجي "إسرائيل" بكل أنواع الأسلحة الفتاكة حتى اللحظة، ولا يشعر بأنه مضطر للضغط عليها لتطبيق
قرارات الشرعية الدولية أو الاستجابة حتى لطلبات بعض السياسيين الفلسطينيين العرب لحفظ ماء الوجه، إذن لا بد من التفكير الجدي بخيارات أخرى.
الأنظمة العربية، ومعها الإسلامية، لم تكتفِ ببيع شعوبها الكلام. ولو لم تخجل من شعوبها لوقفت إلى جانب الكيان الصهيوني الذي يقوم منذ أخمسة أشهر بمجازره الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ليس في غزة فحسب، بل حتى في الضفة الغربية أيضاً، من دون أن يحرك كل ذلك ساكناً في ضمير ووجدان هذه الأنظمة التي اجتمع ممثلوها في الجامعة العربية "ليستنكروا وينددوا" بهذا العدوان، في الوقت الذي لم يجرؤ هؤلاء الزعماء على عقد قمة عربية عاجلة أو في إطار ما يسمى بمنظمة التعاون الإسلامي، التي يبدو أنها أيضاً "بطولها وعرضها" تهاب الكيان الصهيوني، وإلا ليس هناك أي تفسير لموقف هؤلاء الزعماء الذين لو اتخذوا أي موقف عملي، مهما كان صغيراً، لأجبروا الكيان الصهيوني على وقف عدوانه الهمجي على مليوني فلسطيني في غزة.
وما يجري في القطاع لا يمكن أن يتحمله أي إنسان يحمل ذرة من الوجدان والضمير، حتى إن لم نقل عن ذلك الإباء والشرف والكرامة العربية والإسلامية.
ولم يعد خافياً على أحد أن بعض هؤلاء الحكام متواطئين مع الكيان الصهيوني، سراً كان أم علناً، وإلا ليس هناك أي منطق عملي لهذا الموقف الخانع الذي يشجّع الصهاينة على المزيد من القتل والإجرام بحق الشعب الفلسطيني أمام أنظار العالم، ولكن الأهم الدول والشعوب العربية التي يبدو أنها تهاب حكامها، فيما هم يهابون نتنياهو، وهو ما يستغله الآخرون في العالم ليقولوا: "إذا كان الحكام العرب والمسلمون لا يقفون موقفاً عملياً وسريعاً ضد العدوان الإسرائيلي، فلماذا نفعل ذلك، في وقت لا تربطنا بالقضية أي علاقة سوى ضميرنا".
ولم يؤثر كل ذلك في مواقف الحكام في مصر والأردن والسعودية وقطر والإمارات وآخرين، كالمغرب والبحرين والسودان والكويت، فوقفوا موقف المتفرج الذي كاد يتحول لمصلحة الكيان الصهيوني مباشرة وضد الشعب الفلسطيني، بذريعة حماس "المتطرفة".
ولولا خوفهم من موقف إيران وسوريا واليمن والجزائر وتونس وحزب الله وأطراف أخرى كثيرة في دول وشعوب العالمين العربي والإسلامي التي خرجت جميعاً تعبيراً عن تضامنها المطلق مع الشعب الفلسطيني بأشكال مختلفة، لاتخذوا مواقف أكثر خنوعاً.
لقد أصبحت الآن صورة "إسرائيل" واضحة أمام العالم ومن أهم سمات تلك الصورة أنها ترتكب جرائم بحق الإنسانية، وأنها نظام يقوم على الفصل العنصري لذلك بدأ يتردد مفهوم الأبارتايد الإسرائيلي وأن "إسرائيل" تقوم بطرد الفلسطينيين من أرضهم وإبادتهم، وتدمر الحضارة الإنسانية، حيث ينسف الطيارون الإسرائيليون أبراج غزة تنفيسا عن شعورهم بالإحباط، أمام بعض الحكام العرب المتخاذلين الخانعين الذين استكثروا على أطفال غزة حتى الفتات بل تاجروا بجوعهم وكارثتهم.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال