كسر الإرادة الأميركية.. تطبيع أم انتصار؟ 37

كسر الإرادة الأميركية.. تطبيع أم انتصار؟

من وسط نيران الحرب العالمية الثانية الحارقة، ومن قلب أحداثها المشتعلة، خرجت إحدى أكثر الأفكار النازية الإبداعية فجأة إلى رأس عدد من المخططين الألمان، ودارت حول رغبة جارفة في كسر الإرادة البريطانية والتمكين لحصارها تمامًا، عبر عملية سرية بالغة الجرأة والتعقيد، تعرف تاريخيًا بـ “عملية بيرنهارد”، على اسم الضابط الألماني الذي كان مسؤولًا عن التوجيه والتنفيذ لهذه الضربة الكبرى كلها.

ودارت فكرة الضابط الشاب بيرنهارد كروغر صاحب الـ 38 عامًا فقط وقت قيادته للعملية، حول الاستعانة بعدد من أكثر الصيارفة اليهود، من كل معسكرات الاعتقال النازية التي كانت تغطي القارة الأوروبية، والعمل ضمن فريق واحد للتوصل إلى عملية استنساخ معقدة لأوراق النقد البريطانية، وباستخدام نوع الورق ذاته والاستعانة بجهود علماء الرياضيات لمعرفة خوارزمية الأرقام المسلسلة للعملة.

كان النجاح الألماني باهرًا، فقد استطاع الفريق الصغير، وسط جو من السرية العسكرية الكامل، الخروج بأفضل تزوير متقن عرفته أسواق المال العالمية، لدرجة عدم تمكن رجال البنوك المتمرسين من التفرقة بين النسخة الألمانية والأصل البريطاني، ولكن البطء والتكلس في مفاصل إدارة الدولة الألمانية، منع الوحدة من إنتاج أكثر من 130 مليون جنيه إسترليني فقط، كما أعاقت ظروف الحرب والحصار المضروب حول ألمانيا إمكانيات تصريف أغلب الأوراق المزيفة في أسواق بريطانيا ذاتها، كما كان يفترض.

كان الهدف الألماني البسيط والمباشر من العملية هو هز عرش الاقتصاد البريطاني في الأسواق العالمية، وتصدير التضخم إلى سوقها الداخلية، وفرض ما يشبه عملية الحصار الذي يشبه ما فعلته الغواصات الألمانية للجزر البريطانية في سنوات الحرب الأولى، وكل هذا عن طريق هز صورة عملتها وتبديد الثقة فيها، وبإضافة ما يستتبعه التضخم من أزمات داخلية عديدة تكسر إرادتها وتضرب إمكانيات صمودها في الحرب كلها.

ورغم عدم الاستفادة النازية للدرجة المرجوة أو المطلوبة من عملية بيرنهارد، إلا أنها تعد الممارسة الأولى المتكاملة لما يوصف بأنه “حرب اقتصادية”، لا تستهدف القصف المباشر بقدر ما تضرب أسس المجتمع وثوابته وقدراته، ولا تستخدم القذائف لكنها تقوم على تفعيل طريقة التدمير الذاتي للمجتمعات الإنسانية، بسلبها الثقة المفترضة بين المواطن والدولة، وبالتالي تدفع بالطرفين إلى قرب حالة العداء غير المعلن، وهذه العوامل كلها في زمن الصراعات الكبرى لا تؤدي لطريق سوى إلى مذبحة في العراء أو مهلكة في تيه لا نهائي.
..
أعادت الولايات المتحدة الأميركية، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، الحياة والحركة إلى المخططات النازية، سواء في التسلح مثل الصواريخ، أو مجال الدعاية، الذي تفوق فيه قيصرها المبدع جوزف غوبلز، واستخدمتها في ميادين السياسة الداخلية والخارجية، لتحول مهمة الإعلام إلى عملية إعلانات مختصرة ومضمنة برسائلها وقيمها الجديدة وتسويق الوهم عبر شاشات تتوهج ببريق الألوان الزائف، كما أتاح لها العثور على فرقة الميجور بيرنهارد أحياء، فرصة لا تفوت لنقل تجربة الحرب الاقتصادية، وتطويرها ودفعها، حتى صارت السلاح الأكثر إيلامًا في السياسة الأميركية تجاه كل دول العالم.

وبحقيقة خروجها من الحرب كقوة عالمية عظمى، وتمكنها خلال فترة الدمار التي حلت على عواصم أوروبا واقتصادياتها، فقد نجحت واشنطن في تأمين سيطرة مالية عالمية كاملة، عبر اجتماع بريتون وودز الشهير، والذي خرجت منه بمكسب اعتراف العالم بالدولار كعملة كونية جديدة، وإنشاء كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، وانتزاعها حق الفيتو في صندوق النقد بفعل حصتها الهائلة في تأسيسه، والتي تجاوزت 16.5% من حصصه.

بالتالي كانت الولايات المتحدة في ممارستها للحرب الاقتصادية الجديدة قد تفوقت على النازيين، بل وعلى كل شياطين الأرض، بإمكانها أن تعاقب بيد متى شاءت وأينما رغبت، وباليد الأخرى تلوح بأوراق الدولار الخضراء لكل دولة وكل نظام في أزمة، وأزمات العالم بطبيعتها لا تتوقف ولا تنتهي، وفي أوقات كثيرة كان سلاح الاقتصاد قادرًا، وقاهرًا.

وحين تتكامل السيطرة الإعلامية مع الاستهداف الاقتصادي، يصبح أمر دولة يريد الأميركي تطويعها معروفًا ومصيرها واضحًا، موجات من الهزات الاقتصادية العنيفة تضرب المجتمعات، ومعاناة وضغوط معيشية على الطبقات الأقل والأدنى تصبغ استمرار الحياة بلون قاتم، وتركيز إعلامي هائل يبث من الأكاذيب والشائعات ما يدمر كل خطوات الإصلاح أو عمليات الترقيع، في النهاية تجبر كل هذه العوامل المجتمعات على الانفجار الهائل، وفي الاتجاه الخاطئ، وفي التوقيت الأسوأ لظروفها واستقرارها.

كانت هذه الخلطة الأميركية هي المعتمدة في أغلب تحركات الربيع العربي، على سبيل المثال، والتي أعقبت الأزمة المالية العالمية الحادة في 2008، وقللت بالتالي من قدرة الأنظمة العربية الرسمية على المناورة أو عبور التحدي بسلاسة،
وتلا خروج الجماهير في أكثر من بلد عربي، دون بديل واضح ودون خطط وطنية للحلم المنشود، ما تحول إلى أكبر كارثة ضربت العالم العربي، وحوّلت أغلبية دوله إلى مجموعة من أكثر دول العالم فسادًا وفقرًا واستبدادًا، وتحول حلم التحرر إلى كابوس طويل، وبلا نهاية سوى الدمار الكامل.
..
في نهاية شهر تموز/ يوليو الماضي، أصدر البنك الدولي واحدًا من أخطر تقاريره المنشورة خلال العام عن الاقتصاد اللبناني، لم يكن في التقرير كله، وعنوانه “المالية العامة في لبنان: مخطط تمويل بونزي؟”، أي نقطة ضوء ولو من بعيد، كان تقريرًا يستبق الانهيار، أو هو لبنة أرادها الأميركي ختامًا لقصة الحصار الهائل المفروض على لبنان وعلى المقاومة اللبنانية في قلبه.

يقول التقرير الأشد سوادًا وتشاؤمًا من أي وصف، إن الاقتصاد اللبناني قد بلغ مرحلة الانهيار إلى غير رجعة، وأوضح أن 3 عوامل قد حددت المصير اللبناني القاتم، وهي انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية بأكثر من 90%، وفشل كل الجهود لاحتواء هذا التدهور، والثاني هو التضخم المنفلت الذي دخله الاقتصاد اللبناني، ومؤشراته تتفوق على كل من موزمبيق وفنزويلا، ليتصدر لبنان العالم في مؤشر التضخم وحده، مع وصول نسبة التضخم إلى أكثر من 72% سنويًا، والثالث هو انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 58.1%، وعجز لبنان -فعليًا- عن سداد ديونها وما يرتبط بها من أعباء وفوائد.

لم يكن البنك الدولي، وتقاريره المخادعة، سوى رأس الحربة الجديد للأميركي، للوصول بالإرادة اللبنانية إلى مرحلة التطويع أو الكسر، ولم تكن المؤشرات الاقتصادية التي تطلقها مؤسسات التمويل والتقييم العالمية سوى سكاكين يراد لها أن تنفذ إلى الأعصاب اللبنانية وإلى قلب المجتمع، فتشل كل إمكانيات الحركة وتسد كل منافذ الحلول المتاحة، كان مجرد عملية تسريع للتوتر الحاد الذي ألقته ظروف الحصار الطويل على لبنان، دون معونة ولا دعم، واستكمالًا لعملية طويلة من الاستدانة الخارجية الهائلة، بدأتها وأشرفت عليها الحكومة اللبنانية -وبتواطؤ أميركي- منذ العام 2010 وحتى 2018، رفعت أرقام الديون الخارجية من 47.8 إلى 79.7 مليار دولار.

عند هذا المفصل التاريخي، وقبل الوصول لنقطة الانهيار، التي خطط لها وأرادها الأميركي ومن ورائه الصهيوني، خرج الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله طارحًا فوق الطاولة وعلى رؤوس الأشهاد حل استفادة لبنان من ثرواته البحرية الهائلة، ومعها وضع التهديد بالذهاب إلى حرب إن قام الكيان باستخراج الغاز من حقل “كاريش” الفلسطيني قبل حصول لبنان على حقوقه.

واليوم، نجح لبنان -كدولة- في الاستفادة القصوى من معادلة السيد، لبنان يحصل على الحقوق والغاز أو لا غاز لأحد، من خلال تعيين حدوده البحرية، بلا ضمانات ولا تطبيع، ودون أن يوقع ممثل لبناني على اتفاق مباشر مع العدو، ليفتح للأمل ألف باب وباب.

وإذا كان لبنان، وبفضل المقاومة وسلاحها وصورايخها، وإرادة السيد وإدارته فائقة البراعة لعملية انتزاع حقه في التنقيب واستخراج الغاز الطبيعي من حقوله البحرية، قد حقق ما لم تحققه أي دولة عربية، حتى تلك التي اعترفت بالكيان ووقعت على معاهدات مذلة يدعونها “سلامًا”، وإذا كان البلد وبسبب الحصار الأميركي قد وصل إلى نقطة الانهيار التي تسبق الانفجار، ولم ينقذها في ظرف أرادوه موتًا كاملًا، سوى المقاومة وعزمها، فإنه من السخف أن نعيد تكرار مأساة مناقشة ما يطرحه البعض بشأن الفارق بين تعيين الحدود ومعاهدة تطبيع، وتدخلهم بعد فوات الأوان في عملية مزايدة حقيرة للتخفيف من آثار انتصار المقاومة على مخططات أسيادهم في واشنطن وتل أبيب وغيرها من العواصم العربية.

والصدق ما قاله سماحة السيد، في خطابه الأخير للتعليق على وثيقة تعيين الحدود البحرية “الصواريخ بتطعمي خبر”، نعم تطعم الشعوب الجائعة للحرية والانعتاق من فخ التبعية المقيت خبزًا وكرامة وعزة، وتمنحنا -نحن المفعول بهم- الأمل في أن نتحول إلى فاعلين أصليين في جملة المنطقة، والتي صار حزب الله بإرادة حرة لا تلين رقمها الأصعب، ومبتدأها الأول والأنبل.

 

أحمد فؤاد

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال