كيان من وهم 30

كيان من وهم

“المقاومة تمهد الأرضية لليوم الذي سيأتي حتمًا، ونصلي جميعًا فيه في القدس” ــ سماحة سيد الوعد الصادق

في هذه الأيام، وقبل 34 عامًا، أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية على لسان رئيسها ياسر عرفات “إعلان الاستقلال الفلسطيني”، في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ 19، والتي استضافتها قاعة قصر الصنوبر في الجزائر العاصمة. إعلان جاء بلا قيمة، واستباقًا لما سيكون انطلاق عجلة عملية “السلام” الفلسطينية، والتي انتهت أيضًا إلى لا شيء تقريبًا.

الكارثة هي أن الإستراتيجية الصهيونية التي تمارس ضد الشعوب العربية عمومًا، والشعب الفلسطيني بالذات، مستمرة ومستقرة، وهي أقرب ما تكون إلى عمليات التدويخ والاستنزاف السياسي المتواصل، والتي تحيد فجأة عن الأهداف الأساسية والمطلوبة من كل اجتماع أو مؤتمر لما يسمى “السلام”، وتفتت القضية الواحدة، ثم تفتح الملفات تباعًا على أزمات أخرى كثيرة لا نهائية، وتربك المتابعين في خضم ملفات متعددة تزخر بالقضايا الثانوية ويعرقلها تشابك الخطابات والرؤى، لنصل في النهاية إلى ما انتهت إليه عملية المفاوضات الفلسطينية، أي نقطة اللا شيء.

كانت “عملية السلام”، ومنذ أوسلو وصولًا إلى اليوم، تستهدف تثبيت حقيقة واحدة، وهي وجود الكيان ونفي فلسطين جملة وتفصيلًا، وقصدت الولايات المتحدة من رعايتها لتلك العملية الفاشلة، ومنذ أول اتصال فيها، أن تقول لكل من يعنيه الأمر في المنطقة وغيرها، إن الشرق الأوسط بالكامل في يدها وحدها، والتصرف في كل قضاياه يمكن أن يتم بوسائلها فقط، ولديها الحق الحصري في المنح والمنع، المكافأة أو الإضرار، وبالتالي فقد رسمت حدود الصراع معها هي، بشكل يتجاوز قدرة كل قادة العرب، وحتى خيالهم، على مجابهة أية ترتيبات أو حلول تضعها واشنطن.

كانت هذه كلها ظلالًا وصورًا باهتة، لأطراف اعتقدوا أو زينت لهم أوضاع القوة في لحظة معينة وفي ظروف محددة، أن بإمكانهم إنهاء القضية الفلسطينية تمامًا، وأكثر من ذلك تصفيتها نهائيًا، لكن جديدًا طرأ على معادلة الشرق الأوسط التي كانت مستقرة وثابتة منذ العام 1948، وإلى العام 2000، وهي انتصار حزب الله، هذا العامل وحده حوّل الظلال والصورة إلى جسد وحياة، وأعاد الحق والحلم بالتحرير إلى كل فلسطيني، وإلى كل عربي.

ما رسخه انتصار حزب الله في العام 2000، وصور هروب الجيش الذي لا يقهر من لبنان، دون معاهدات وبلا شروط، ثم كسر العدوان الصهيو – أميركي عليه في 2006، ودفن مشروع الشرق الأوسط الجديد، أعاد بث روح الانتصار في مفاصل الأمة المنهكة، وقلوبها الوجلة من مواجهة ــ كانت تعتبرها أكبر من كل طاقاتها ــ وما مثله هذا الانتصار النموذج والكامل، هو أنه قدم للفلسطيني العادي إمكانية أن يملك جرأة الخيال، وجسارة القبول بالمخاطرة المحتملة طالما كان النصر ممكنًا.

امس، 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، خرج علينا بطل جديد من فلسطين، محمد مراد سامي صوف، صاحب الـ 19 ربيعًا فقط، مؤمنًا بربه وبنفسه ووطنه، ليخطط وينفذ ببراعة منقطعة النظير عملية معقدة ضد الصهاينة، في مغتصبة “أرئيل” المقامة على أرض مدينة سلفيت بالضفة الغربية المحتلة، مخلفًا 3 قتلى ومثلهم من الجرحى، وأداته الوحيدة كانت سكينًا نحر به كل حلم لهم بالبقاء على أرضنا.

مكان العملية هو الآخر لافت للانتباه بشدة، إذ تعد مدينة سلفيت، والتي ينحدر الشهيد البطل من بلدة حارس التي تتبع قضاءها، إحدى أهم البقع التي تخضع لتأمين مكثف ودائم، وتعتبر محافظة سلفيت بشكل عام من أهم محافظات الضفة الغربية بعد القدس والخليل من حيث الموقع وأكثر احتضانًا لقواعد صهيونية ومغتصبات وارتكازات أمنية لجيش الاحتلال، ويعود أول توسع صهيوني فيها إلى الفترة التي تلت حرب النكسة 1967، بإقامة مستوطنة “الكانا”، لتحل محل معسكر سابق للجيش الأردني في منطقة جبل الحلو غرب قرية مسحة.

ومنحت الطبيعة الجغرافية الاستثنائية لمحافظة سلفيت أهمية استثنائية لجهود الاستيطان والابتلاع الصهيونية، فالمحافظة تقع في خاصرة الضفة الغربية تمامًا، تربط أو تعزل بين الساحل الفلسطيني وغور نهر الأردن، وتقبع في قلب مثلث من المدن الفلسطينية، هي نابلس ورام الله وقلقيلية، والسيطرة على موقع سلفيت الحيوي يعد بمثابة خنق وتفتيت للمدن والمناطق الفلسطينية التي تجاورها أو تحاذيها.

لذا كانت منطقة سلفيت من أكثر مناطق الضفة الغربية ازدحامًا بالمغتصبات الصهيونية، التي أنشئت وفق مخطط استهدف تقطيع أوصالها، قبل أن يبتلع أراضيها ويشرد أهلها، وطبقًا للبيانات الفلسطينية، فإن محافظة سلفيت تضم 25 مغتصبة قائمة على أراضي المحافظة، يسكنها أكثر من 25 ألف مستعمر، كما توجد فيها 21 بؤرة استعمارية إضافية، وتصادر تلك المستعمرات والبؤر نحو 20 ألف دونم من أراضي المحافظة. كما صادر الاحتلال لصالح معسكرات الجيش 64 دونمًا، من أخصب الأراضي الفلسطينية.

رغم الحركة المستحيلة وسط هذا الحصار الذي يمثله الجيش والشرطة الصهيونية، والحصار الإضافي الذي يفرضه التواجد الكثيف للمستوطنين، والاستعداد الدائم والدؤوب للعمل فور ورود أنباء عن اشتباكات أو عمليات محتملة، فإن البطل محمد صوف قد اخترق كل تدابير الأمن وإجراءات الحماية الفائقة للمنطقة، واستطاع تنفيذ عمليته المركبة، وتوجيه ضربة هي الأحدث والأكثر إيلامًا لقلب الكيان الصهيوني.

ما تترجمه عملية سلفيت البطولية، هي أن هذا الكيان الهش أضعف من أن يستمر، وأوهن من أن يوجه التهديدات لغيره، سواء للبنان أو سوريا أو إيران، فنصف الجيش الصهيوني مستنزف حتى أطرافه في مواجهة العمليات الفدائية داخل الأراضي الفلسطينية، ورغم ذلك، فقد فشل في منعها أو تقليل وتيرتها، رغم إجراءات العنف والإرهاب التي يمارسها ضد أهالي المقاومين وقراهم، ورغم قرارات هدم منازل الشهداء وتشريد أسرهم، واعتقال الأقارب والأصدقاء.

كل من يراهن، في الشرق الأوسط أو خارجه، على إمكانيات استمرار هذا الكيان، أو يبني تحليلاته ومواقفه ويضع خططه، على أساس بقائه كقوة إقليمية ضخمة وفاعلة، عليه أن يشاهد من جديد الفيديوهات المنتشرة لعملية سلفيت، ويعيد تقييم موقفه، قبل أن يعيد الكشف على قواه العقلية، هذا الكيان الهش أوهن من بيت العنكبوت، ورغم أن الدول العربية – في هذه اللحظة – أكثر منه هشاشة وضعفًا، إلا أن جيلًا جديدًا قد نشأ في ظل انتصارات المقاومة، يعرف ما يريد، ويؤمن بما يفعل، وهو قادر على ضرب أسس وقواعد كيان العدو في مقتل.

 

أحمد فؤاد

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال