بانسحاب سريع ولافت ومذلّ بما يشبه الفرار لكافة عناصره وضباطه وآلياته، أنهى العدو الصهيوني مساء أمس وقبل منتصف الليل، عمليةَ الاقتحام التي قادها للدخول إلى مخيم جنين، دون أن يحقق الهدف الأساس الذي حدده منها وهو: "إنهاء البنية التحتية العسكرية في جنين وإنهاء دورها كملاذ للإرهاب"، وفق تعبير رئيس حكومة الاحتلال.
عندما قرر العدو الصهيوني اقتحام جنين ووضع خطته للعملية التي من المفترض أنها كانت تجيب على كل مفاصل ومراحل المناورة الهجومية على أساس أنها مناورة جيش الكيان بكامل قياداته وأركانه، بقي هناك لدى قادة هذا الجيش السياسيين والعسكريين منهم نوع من الغموض الممزوج بعدم ثقة بأن العملية سوف تسير حسب ما هو مقدّر لها، وطبعًا ليس بسبب عدم اعطائها كل ما تحتاجه من عديد أو عتاد أو دعم، حيث كان لها كل ذلك، بل السبب الفعلي لهذا التردد كان في خوفهم مما يمكن أن تفاجئهم به عناصر المقاومة الفلسطينية في جنين.
هذه المقاومة في جنين والتي جرّت العدو إلى هذه العملية بعد أن شكّلت له عقدة غير بسيطة، برهنت في أغلب المواجهات الأخيرة ضد الصهاينة أنها تملك نواة عسكرية مميزة، فبالإضافة للالتزام والجرأة والإيمان الكامل بمقاومة الاحتلال تحت أي ظرف أو صعوبة أو خطر، أيضًا، أظهرت مستوى متقدمًا في التكتيك وفي القدرات النوعية وخاصة العبوات الناسفة، والتي كان لإحدى آليات العدو المدرعة والأكثر تطورًا "الفهد" معها نصيب من الاستهداف المباشر ومن التدمير.
بعد انطلاق العملية ومع مرور الوقت، والذي كان قد حدده العدو بـ٧٢ ساعة حدًا أقصى لإنهائها، بدأ يتأكد من صحة شعوره وخوفه المسبق وعدم ثقته بأنه سوف ينهيها بنجاح وبتحقيق الأهداف التي وضعها لها، وذلك حين بدأ التحكم بمسار العملية يخرج من يده، وليكون هذا المسار في يد عناصر المقاومة بشكل شبه كامل.
ففي الوقت الذي كان من المفترض لعملية على مستوى جيش قادر ومخططة منذ وقت طويل، ومؤجلة التنفيذ أكثر من مرة أن تكون مدروسة لتحقق الحد الأدنى مما كان مقدرًا لها، بقيت وحدات العدو بعيدة عن الإمساك بأي خط من خطوط المناورة المفترض أن تمسكها، فلا سيطرة على أي مستديرة رئيسية في المخيم، ولا سيطرة على أي من النقاط الحاكمة أو المؤثرة في المخيم، ولا دخول لأي مركز أو موقع أو مكان له صفة البنية التحتية العسكرية للمقاومة، كما ولم يتحقق فصل المخيم عن المدينة وفق ما أراد العدو، وأيضًا فشل في تحقيق أي فصل بين أحياء المخيم، فقط انحصرت مناورته بتكديس العناصر والآليات في الشوارع الضيقة المخفية وتحت مداخل الأبنية المحميّة والبعيدة عن أنظار ونيران المقاومين.
أما لناحية "تحييد الإرهابيين" كما ادّعى، فهؤلاء المقاومون، وفي الوقت الذي كان مفترضًا بمناورة العدو أن تشلّ حركتهم مع تقدم الوقت في عملية الاقتحام، تابعوا التصدي لوحداته بطريقة تصاعدية، وعبر زيادة تحركهم انتقالًا وانتشارًا على أغلب طرق المخيم ونقاطه الفاصلة، وعبر رفع مستوى أعمالهم القتالية من خلال تكثيف عمليات إطلاق النار على آلياته وعناصره ومن مسافات قريبة، إلى اطلاق أسلحة دفاع جوي مناسبة أسقطوا من خلالها أربع مسيّرات للعدو، وفجّروا عشرات العبوات الناسفة بآلياته المدرّعة وأعطبوها.
أمام كل ما تقدم، لناحية الضياع والتردد والفشل في احراز أي تقدم نحو عمق المخيم أو حتى نحو أي من أحيائه الرئيسية ولو بالحد الأدنى، وأمام ضغوط الوقت والخوف من انكشاف الهزيمة والفشل بما لا يمكن تغطيته، لا سياسيًا ولا عسكريًا أو ميدانيًا أو إعلاميًا، قرر العدو الانسحاب من المخيم وكأن شيئًا لم يكن، وكأن كل ما وضع من أهداف وطموحات كانت فقط للاستهلاك الإعلامي والسياسي ليبرر نتنياهو هذه الصفعة بقوله إن العدوان المسمّى "بيت وحديقة" لن يقتصر على ما حصل خلال اليومين الماضيين فقط، فهو عدوان مفتوح حتى تحقيق أهدافه.
ومع انسحابه المذل، وبدل أن يحقق معادلة كسر جنين وإنهاء البنية التحتية العسكرية لمقاوميها، كرّس العدو أمس "جنين" عاصمة للمقاومة لا يمكن تخطيها أو تخطي أبطالها، ونموذجًا لمواجهة الاحتلال لا يمكن تجاوزه أو كسره.
المصدر: العهد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال