لماذا تعيد أميركا إنتاج “داعش” في أفغانستان؟ 25

لماذا تعيد أميركا إنتاج “داعش” في أفغانستان؟

انفجار قندوز هو الأول الذي يستهدف مسجداً للطائفة الشيعية في أفغانستان، وهو طبعاً ليس حدثاً عابراً، مع ما يحمله من رسائل خطيرة.

شكّلت الانفجارات الأخيرة، والتي وقعت في أفغانستان في إبان الانسحاب الأميركي، وتسلُّم “طالبان” زمام الحكومة فيها، مؤشّراً متزايداً وواضحاً فيما يتعلّق بنشاط خلايا التنظيم الإرهابي “داعش”، المسؤول الأول والأخير عن تفجيرات وقعت ضدّ مدنيين في عدة دول، كسوريا والعراق، و(أخيراً) أفغانستان، وكان بينها تفجير استهدف مسجداً في كابول في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أدّى إلى مقتل وإصابة أكثر من عشرين شخصاً. كما وقع الانفجار الأخير، والذي يُعَدّ الأعنف منذ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، في مسجد في مدينة قندوز في شمالي شرقي أفغانستان، في أثناء صلاة الجمعة، وراح ضحيته العشرات، وتبنّاه تنظيم “داعش” الإرهابي بصورة رسمية.

انفجار قندوز هو الأول الذي يستهدف مسجداً للطائفة الشيعية في أفغانستان، وهو طبعاً ليس حدثاً عابراً أو هامشياً، مع ما يحمله من رسائل خطيرة، في المشهد الداخلي الأفغاني، فعبر هذه الأحداث تعود أفغانستان إلى الواجهة من جديد، بعد خمسة عقود مرت. ومن خلال هذه التفجيرات المتكرّرة، تدخل قيادة “طالبان” تحدياً عبر تهديدات أمنية داخلية متزايدة ليست بالسهلة، في مواجهة بيئة كامنة بدأت تنشط من جديد لبثّ الفوضى وزعزعة الأمن والاستقرار الداخليَّين، وتضع المشهد الأفغاني، تحت حكم “طالبان”، في حالة اضطراب دائم.

تتزامن وتيرة هذه التفجيرات وتتصاعد بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لكنها تنسجم، في التوقيت ذاته، مع تصريحات أميركية أخيرة قالت إن أفغانستان ستشهد تهديدات عنيفة من تنظيمي “داعش” و”القاعدة” خلال العامين المقبلين، وهو ما يضع تساؤلات مهمة تجاه الأطراف التي تغذّي التنظيمات الإرهابية وتدعمها وتعمل على تقويتها، وسط بيئة جديدة تحكمها “طالبان”، ومن الذي يخطّط لتحويل أفغانستان إلى مقرّ لها بعد أن فشلت هذه التنظيمات فشلاً ذريعاً في إقامة نفوذ كبير لها في سوريا والعراق، طوال سنوات مضت.

كثيرة هي التساؤلات. ومسلسل الأحداث في البيئة الداخلية الأفغانية يجعلنا نستحضر محطات بارزة في نشأة التنظيم الإرهابي “داعش” وتاريخه وأهدافه في كثير من الدول، وفشله في تحقيق أهدافه على مدى سنين مضت. والساحة السورية ربما هي الأقرب إلى ذاكرتنا بشأن استحضار ما خطّط له وسعى إليه “داعش”، ومحاولاته المستمرة في زعزعة دولة عزيزة علينا كسوريا وضربها، لأنها تمثل قلب محور المقاومة، وصولاً إلى العودة مجدّداً إلى سياسة الاستنساخ في أفغانستان.

معروف أن تنظيم “داعش” هو من صنيعة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة، وهذا ما أكدته اعترافات لشخصيات أميركية سابقة في مذكِّرات كُتبت، وهو ما أكّده دونالد ترامب في إبان فترة حكمه، بحيث اتَّهم، بصورة مباشِرة، الرئيس الأميركيَّ الأسبق باراك أوباما بتأسيس “داعش”، كما اتهم وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون بأنها شريكة في تأسيسه من أجل تحقيق أهداف أميركية عبر أدوات غير مباشِرة.

احتلّت أميركا أفغانستان طوال عقدين من الزمن، استمرّت الحرب خلالهما فيها وسُجِّلت على أنها أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة خارج حدودها بصورة مباشِرة، من دون أن تصل إلى النتائج التي سبق أن أعلنتها في البدايات، بل من دون أن تحقّق أهدافها المزعومة. وكما دخلتها، خرجت منها بخُفَّي حُنين، ولم تترك خلفها إلاّ بيئة كامنة للتطرف والإرهاب، وقابلة للنمو. وهي، بالتأكيد، تريد من وراء ذلك إغراق المنطقة في صراعات أمنية معقَّدة لتكون منطقة محتدمة ومتوترة.

انسحبت أميركا من المواجهة المباشِرة في أفغانستان بعد أن أصبحت مُكْلِفة لها، وشكّلت حالة استنزاف مفتوحة وكبيرة. وهي تستخدم الآن سياسات قديمة جديدة، تدعم فيها بيئة المواجهة عبر الأدوات غير المباشرة، من خلال استخدام الجماعات الإرهابية وتوظيفها من أجل ضرب الوضع الأفغاني الداخلي، وإشعال الصراعات والأزمات الداخلية. وهذا كان واضحاً عبر استهداف هو الأعنف لمسجد يتبع الطائفة الشيعية شمالي شرقي أفغانستان.

عودة حكم “طالبان” وسيطرتها على كثير من المناطق تدلّ على أن أفغانستان ستشهد تحولات مستقبلية كبيرة، لكن البيئة الأفغانية تعطي مؤشّراً مفاده أن خطر الإرهاب قائم، وفي تصاعد. وبالتالي، ما يقع على عاتق الحكومة الأفغانية بقيادة “طالبان”، هو ضرورة الاقتناع بأن اتخاذ أيّ قرارات على أساس أن “داعش” “انتهى” يُعْتَبر خطأً استراتيجياً كبيراً، فلقد أصبحت السيناريوهات في البيئة الأفغانية متشعّبة ومتعدّدة، وربما تفتح المجال واسعاً أمام بزوغ تحديات أمنية أخرى، ليست بالسهلة. فـ”ما كل ما يتمنى المرء يدركه”، بل “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”. هكذا قالها الشاعر المتنبي، فلقد تسلّمت “طالبان” الحكم في أفغانستان وسط تغيُّرات دراماتيكية سريعة، لكنها تواجه اليوم مساراً ليس سهلاً في مواجهة تنظيم بدأ ينمو، عبر قيامه بأعمال إرهابية طالت المدنيين، حتى إنها طالت المساجد هناك أيضاً.

التحدّي الأمني ليس الوحيد أمام حكومة “طالبان” الجديدة، والبيئة الأفغانية تقول إن ملفات صعبة تواجه الحكومة التي تديرها “طالبان”، في انتظار المُضِي فيها، ولاسيما إعادة بناء أفغانستان بعد الحرب التي استمرت عقوداً، والحد من حدوث أزمات اقتصادية، ودعم المنظومة الصحية في ظل تفشّي وباء “كورونا” عالمياً.

ثمة أهداف باتت مكشوفة وراء سلوك “داعش” الإرهابي، واستخدامه أداةً عبر سياسة الإشغال والتوظيف من أجل تحقيق أهداف ومصالح وغايات خارجية، علماً بأن كثيراً منها يتزامن مع مجريات مهمة تحدث، أو سوف تحدث. ووقوع التفجير الإرهابي الأخير، والذي يأتي بعد فترة قصيرة من سيطرة “طالبان” على أفغانستان، يؤكد أن لمثل هذا السلوك أجندةً وارتباطاً مخابراتيَّين واضحَي الصِّلَة بجهات أمنية أجنبية. والدليل على ذلك عدم قيام “داعش” بأيّ أعمال إرهابية كبرى قبل الانسحاب الأميركي من أفغانستان.

بات واضحاً أن هذه الأجندات الأجنبية، بواجهة “داعش” الإرهابي، تعمل على تحقيق هدف غير بريء بالمطلق، عنوانه خلط الأوراق وإحداث نزعة مذهبية طائفية غير موجودة، وإغراق أفغانستان في شلال دم غير محمود، تحقيقاً لأهداف أميركية ودولة غربية أخرى ترغب في أن تبقى أفغانستان بيئة غير مستقرة.

صحيح أن سوريا انتصرت على الإرهاب، وحافظت على وحدتها ، وها هي تنهض من جديد لمواجهة كل التحديات الأمنية. لكننا، انطلاقاً من تسليط الضوء على بيئة الإرهاب في دول بعينها، فالنتيجة الواضحة والتي لا يختلف بشأنها اثنان، هي أن إعادة إنتاج تنظيم “داعش” الإرهابي أصبح يشكّل تهديداً لكثير من الدول في المنطقة، وفي الوقت ذاته يشكل تهديداً خاصاً وخطيراً لاستقرار أفغانستان، أمام تصاعد وتيرة التفجيرات، التي تُنذر باحتمال إشعال حرب أهلية طائفية مقصودة تريدها أطراف كأميركا أو أحد حلفائها، وبالتالي لن يكون وقودها إلا الأفغاني بعيداً عن أيديولوجيته الدينية، سواء كان سنياً أو شيعياً. وهذه السياسة تندرج تحت مسار نظريات الإشغال الداخلي، التي تريدها أميركا، بل تُعَدّ أهم وأبرز أهداف انسحابها من أفغانستان.

علينا ألاّ ننسى أيضاً أن ثمة علاقة أساسية أخرى يجب ذكرها، وتُعتبر أحد أهم أسباب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وتعود جذورها إلى الصراع الأميركي الصيني في المنطقة، وعلاقته بإعادة إنتاج الإرهاب في أفغانستان، إذ يشكّل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان جزءاً لا يتجزّأ من حرب المواجهة بين الدولتين. وتاريخياً، لو عدنا إلى الوراء فسنجد كيف عملت أميركا في صراعها مع روسيا، واستخدمت الأساليب ذاتها. وهي اليوم تكرر السيناريو نفسه مع الصين، وعبر الأدوات ذاتها، أمام ازدياد مؤشّرات الصراع بين أميركا والصين وتفاقمها، وصعود الصين اقتصادياً، وهو السبب الحقيقي وراء توظيف أميركا مجموعات التطرف والإرهاب القائمة في أفغانستان، بل عملت على حمايتها خلال فترة احتلالها طوال عشرين عاماً.

المصدر ؛iuvmpress.news

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال