لمحة عن النظام الصحي البريطاني! 774

لمحة عن النظام الصحي البريطاني!

يواجه النظام الصحي البريطاني الذي يُعتبر من أفضل وأكثر الأنظمة الصحية تطورًا في العالم صراعاتٍ وضغوطًا متزايدة منذ سنوات. وقد عانى هذا النظام كثيرًا من السياسات الحكومية المتتالية والمتهالكة ومن المسؤولين الذين يفتقرون للخبرة، وهو في طريقه إلى التآكل، ويبدو أنه إذا لم تُجرِ إجراءات وسياسات حكومية وتغيرات جذرية في المملكة المتحدة فإن شعار الصحة ولؤلؤة بريطانيا سينهار خلال العقد المقبل.


عشية إعلان ميزانية حكومة ستارمر الخريفية، تتعرض الحكومة لضغوط مالية كبيرة ويجب عليها إيجاد حلٍّ لها. ومن أهم هذه المجالات قطاع الصحة حيث توجد فجوةٌ تزيد عن 3 مليارات جنيه إسترليني. في الواقع تُشكّل الضغوط الرئيسية الثلاثة على النظام الصحي والتي لم تكن متوقعة في الميزانية عبئًا ثقيلًا على النظام الصحي في البلاد، وإذا لم يُوجد حلٌّ لها فستُصبح بلا شك أزمةً كبيرة. أول هذه الضغوط المالية هو تكلفة تسريح الموظفين وتخفيض عدد الموظفين. وقد دعت حكومة المملكة المتحدة إلى تخفيضات في تكاليف تشغيل صناديق NHS و ICBs بعد وضع الميزانية في مارس 2025، وهي خطوة ستتطلب أكثر من مليار جنيه إسترليني لتغطية تكاليف تسريح الموظفين المخطط له. مع رفض الحكومة توفير التمويل الأولي لهذه التخفيضات لن يتمكن مديرو NHS من تنفيذ الخطط وسيضطرون على الأرجح إلى إجراء تخفيضات في مجالات أخرى، مثل تقليل الخدمات غير الطارئة وتقليل ساعات عمل بعض العيادات، مما قد يؤثر على رعاية المرضى على المدى القصير وحتى الطويل. حذر الخبراء من أن هذا قد يقلل من جودة الخدمات بما في ذلك الوصول إلى العمليات الجراحية والاختبارات التشخيصية ويزيد الضغط على العاملين في مجال الصحة.[1]


المشكلة الثانية هي الإضرابات المتكررة للأطباء في المملكة المتحدة، لقد خططت الجمعية الطبية البريطانية (BMA) ونفذت عدة جولات من الإضرابات منذ مارس 2023، وآخرها استمر خمسة أيام في نوفمبر 2025. تشير التقديرات إلى أن الإضراب الذي استمر خمسة أيام في يوليو 2025 وحده كلف هيئة الخدمات الصحية الوطنية حوالي 300 مليون جنيه إسترليني، مع إلغاء أو إعادة جدولة أكثر من 54000 عملية جراحية وموعد على الرغم من أن هيئة الخدمات الصحية الوطنية تمكنت من الحفاظ على أكثر من 90٪ من أنشطتها المجدولة. وقد عرضت هذه الإجراءات معايير انتظار المرضى للخطر، بما في ذلك الهدف المحدد بـ 18 أسبوعًا للرعاية المجدولة ويُترك المرضى ينتظرون لفترة أطول مما قد يزيد من تكاليف التأمين والرعاية الصحية على المدى الطويل. لكن السبب الرئيسي لعدم رضا الأطباء ليس فقط الأجر، حيث كانت هناك زيادات كبيرة في الأجور في السنوات الثلاث الماضية. وإحدى المشكلات الرئيسية التي قد لا يعالجها النظام الصحي هي معدل استنزاف الأطباء والممرضات تحت ضغط عبء العمل.


بالإضافة إلى ذلك فإن برامج دعم الأطباء ليست فعالة ولا كافية مما وضع الكثير من الضغوط النفسية والعملية عليهم. وقد وجد استطلاع أجرته الكلية الملكية للأطباء أن ثلث الأطباء يتطلعون إلى العمل في الخارج. وتشمل أسبابهم مزايا مالية أفضل وظروف عمل أفضل وتوازنًا بين العمل والحياة؛ حيث تقدم وجهات مثل أستراليا وكندا رواتب سنوية أعلى وساعات عمل أقل من المملكة المتحدة.[2]


بالإضافة إلى ذلك شكل ضغط ارتفاع أسعار الأدوية تهديدًا خطيرًا لميزانية هيئة الخدمات الصحية الوطنية. وقد أدت محاولة الحكومة الأمريكية لتغيير معايير المعهد الوطني للتميز في الرعاية الصحية (NICE) لقيمة الأدوية إلى اضطرار هيئة الخدمات الصحية الوطنية إلى دفع المزيد مقابل الأدوية. وقد رُفض سابقًا طلب صناعة الأدوية بزيادة سنوية تبلغ حوالي 2.5 مليار جنيه إسترليني في أسعار الأدوية، ولكن يبدو أن التوصل إلى اتفاق بات وشيكاُ حيث سيتم تنفيذ جزء من الضغط المالي لهذا العام.[3]


وقد أدى تضافر هذه الضغوط المالية الثلاثة - تكلفة تسريح العمال والإضرابات وارتفاع أسعار الأدوية - إلى خلق عبء مالي هائل على هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وهو رقم لا يمكن للنظام تحمله بدون دعم حكومي. حذّر مسؤولو هيئة الخدمات الصحية الوطنية من أنه في حال عدم تأمين التمويل ستُخفّض الخدمات الصحية وستزداد قوائم الانتظار. وقد يكون لهذه التخفيضات تأثير مباشر على عائدات الضرائب وتكاليف البطالة حيث لن يتمكن العديد من المرضى من العمل دون علاج.


على الرغم من الاستثمارات الحكومية الأخيرة بما في ذلك 29 مليار جنيه إسترليني لتمويل هيئة الخدمات الصحية الوطنية و10 مليارات جنيه إسترليني للتحول الرقمي، فإن عدم الكفاءة في تخصيص الموارد وتنفيذ الإصلاحات يعني أن النظام لا يحقق أقصى قدر من كفاءته. تُظهر الإضرابات والضغوط المالية غير المتوقعة أن الحكومة لم تتوصل بعد إلى استراتيجية عملية ومستدامة للحفاظ على استمرار عمل هيئة الخدمات الصحية الوطنية.


في نهاية المطاف فإن أزمة هيئة الخدمات الصحية الوطنية الحالية هي نتيجة مباشرة للقرارات غير الفعالة وانعدام الشفافية في التخطيط الحكومي. فبدون إصلاح حقيقي ودعم مالي في الوقت المناسب فإن الخدمات الصحية في المملكة المتحدة معرضة لخطر تدهور الجودة ومحدودية الوصول إليها من قبل الناس، وستتعرض صحة السكان لتهديد خطير وستكلف الحكومة غالياً. يعتمد مستقبل هيئة الخدمات الصحية الوطنية بشكل مباشر على قدرة الحكومة على توفير التمويل الكافي وإدارة الموظفين وتنفيذ الإصلاحات العملية؛ وإلا فإن الأزمة الحالية قد تؤدي إلى أضرار طويلة الأمد وربما حتى إلى انهيار النظام الصحي والثقة العامة خلال العقد المقبل.



أمين مهدوي


[1] https://www.england.nhs.uk/long-read/financial-performance-update-27-march-2025

[2] Strikes could result in NHS cutting staff or services, health leaders warn

[3] https://www.nhsconfed.org/news/pay-redundancies-or-risk-waiting-times-rising-nhs-confederation-and-nhs-providers-warn

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال