ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها كيان الاحتلال لعمليات مقاومة نوعية واستثنائية، بين إطلاق صواريخ من غزة ومن جنوب لبنان، إلى عمليات استهداف صادمة لمستوطنين في غور الاردن او في غيرها من المناطق، إلى عمليات دهس وإطلاق نار داخل تل أبيب او داخل غيرها من بلدات ومدن فلسطين المحتلة.
وليست المرة الأولى ايضا التي يعيش فيها الكيان انقسامات داخلية على خلفيات سياسية او طبقية او دينية متشددة او عنصرية، وليست المرة الأولى ايضا، التي تتعرض فيها العلاقة لاهتزاز وتوتر بين سلطة الكيان وبين داعميه من الخارج وخاصة الاميركيين.
فتاريخ الكيان، منذ بداية احتلاله وحتى اليوم، يمر بشكل دوري تقريبا بهذه الاوضاع الحرجة، وكان دائما ينجح في التأقلم معها والسيطرة عليها ولو بطريقة نسبية اغلب الأحيان، ولكن الكيان يبدو اليوم في وضع غير مسبوق من الوهن والضياع والتردد، وبشكل مختلف عن أي وضع آخر عاشه او مر عليه، وهذا الامر يمكن استنتاجه من بعض الوقائع التالية :
خروج الكيان مؤخرا (ولو مؤقتا) بعد أزمة الخلافات على اقتراحات التعديلات القضائية، منقسما على نفسه بدرجة غير مسبوقة، بحيث ظهرت مكوناته تهاجم بعضها بطريقة غريبة وبمستوى صادم من العدائية والتخوين لم يشهده تاريخه منذ بداية احتلاله لفلسطين حتى اليوم.
لناحية موقع وموقف الجيش الذي طالما كان صمام امان الكيان وضمانة الاحتلال، أعرب قادة اهم وحداته عن اعتراضهم العلني، وعن استيائهم الصريح من مواقف ومشاريع وقرارات الحكومة، لدرجة الافصاح جهارا عن استعدادهم لرفض أوامر السلطة السياسية في حال عدم اقتناعهم بهذه الاوامر، ولدرجة تجرؤهم بان يضعوا على السلطة شروطا واملاءات لقراراتها، وساهمت هذه الاملاءات وفي سابقة نادرة لم يشهدها الكيان او حتى اي جيش آخر في العالم بان تجبر السلطة السياسية (نتنياهو تحديدا)، على التراجع عن قراراته حول التعديلات القضائية، وساهمت ايضا في تراجعه عن إقالة وزير الأمن بيني غانتس، بعد ان كان قد تمرد الاخير على قرارات حكومته.
وليتوج هذا الوهن وهذا الضياع وهذا التردد لدى سلطات الكيان، بموقف هزيل وضعيف، بتنفيذ رد اقل من متواضع على استهداف الجليل بالصواريخ، صدر عن اجتماع الحكومة المصغرة، والتي لم تكن قراراتها تاريخيا للرد على اي استهداف مماثل لمستوطنات الجليل بوابل من الصواريخ تجاوز الثلاثين، باقل من اعتداء جوي عنيف او جوي ــ بري واسع، او بأقل من حرب متوسطة او واسعة.
هذا لناحية الوضع الداخلي وتاثيراته على موقع الكيان اليوم، والذي، بالرغم من أهمية وحساسية عناصره الداخلية، لا يمكن عزله عن ارتباطاته الخارجية، وتاثيراتها الممكنة على ما يعيشه الكيان اليوم، وخاصة في ارتباطه بالموقف الأميركي، وذلك كالتالي:
في الظاهر، صحيح ان هناك خلاف بين واشنطن وتل أبيب حول اكثر من ملف، واهمها ملف التشدد الذي تتبعه حكومة نتنياهوفي مواضيع التعديلات القضائية او الاستيطان او اجراءات القمع في المسجد الأقصى، ويليه في الأهمية، الملف الايراني، لناحية الاتفاق النووي وطريقة مواجهة مسار طهران في التخصيب او في امتلاك سلاح غير تقليدي (حسب زعمه العدو)، وهذا الخلاف "الظاهر"، يُترجم ابتعاداً واضحاً بين الادارة الاميريكة وبين نتنياهو وحكومته، لدرجة عدم وجود تواصل ولو بالحد الادنى المطلوب تواجده بين حليفين تاريخيين، طالما جمعتهما علاقات قوية وفي كافة المجالات المؤثرة.
ولكن في الواقع ، هذا الخلاف الظاهر بين حكومة الاحتلال وبين إدارة الرئيس جو بايدن، لا يمكن وضعه فقط في خانة الموقف الاميركي من الكيان ومن قرارات حكومة نتنياهو، بل يجب وضعه وبنسبة غير بسيطة، في خانة العجز الأميركي عن الإمساك بكل ملفات المنطقة بالطريقة التي طالما كانت تمسكها بها سابقا.
ما تعيشه إدارة بايدن اليوم، لا يقل شأنا وخطورة وحساسية في ملفات الصراع الاستراتيجي الدولي عن ما تعيشه "اسرائيل" من ضغوط ومن اوضاع حساسة.
فواشنطن اليوم عمليا، ترى بأم عينها كيف ان الأمور تفلت من سيطرتها في ملفات اقليمية ودولية، طالما كانت هي من يديرها ويوجهها ويسيطر عليها، وفي مقدمتها ملف العلاقات في الاقليم، وتحديدا بين ايران الدول الخليجية وعلى راسها السعودية.
الامر ابدا غير بسيط، أن تجد اليوم واشنطن كيف ان الصين وفي مسرح مواجهة إضافي معها، غير مسرح المواجهة الاستراتيجية في شرق آسيا، تدخل ( بكين) إلى صميم ملفات المنطقة وترعى مسارا متوازنا من التسويات الطبيعية العادلة، بين دول المنطقة، وتساهم في اخراجه من دائرة التاثير السلبي الأميركي.
من هنا يمكن فهم احد اهم اسباب ما وصل اليه الكيان من ضعف ومن وهن ومن فقدان نافر للقدرة على اتخاذ القرارات الجريئة والحساسة، والذي هو بسبب ما وصل اليه اليوم الموقف الأميركي غير المتوازن والفاقد لمستوى التاثير المعهود في ملفات المنطقة، وحيث بدأ العالم يشهد تراجعا واضحا لموقع الاميركيين على الساحة الدولية، سوف تكون حتما تداعيات ذلك ضخمة ايضا على موقف وموقع الكيان، داخل فلسطين المحتلة او في المنطقة.
وحيث كان دائما النفوذ الأميركي، حول العالم او في المنطقة، يشكل الرئة الثالثة للكيان والتي طالما احتاجها في مسيرته العدوانية تجاه شعوب ودول المنطقة ، بات على الكيان بعد اليوم ان يتنفس دون هذه الرئة الثالثة حيث يبدو من مؤشرات ما يعيشه اليوم، انها سوف تكون مرحلة صعبة عليه، ومن المرجح وبقوة انه لن يستطع مواجهتها بنجاح.
شارل ابي نادر
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال