780
على الرغم من معارضة نتنياهو الشديدة لتشكيل مثل هذه اللجنة، إلا أن السجل التاريخي للجان التحقيق الحكومية في الكيان الإسرائيلي يُظهر أنها يمكن أن يكون لها آثار مهمة وحاسمة في تغيير البنية السياسية في البلاد.
في النظام السياسي للكيان الصهيوني، تُعد لجان التحقيق الحكومية إحدى الأدوات الرئيسية للتحقيق في الأحداث الكبرى والأزمات الوطنية. ولا تهدف هذه اللجان فقط إلى المساعدة في توضيح الحقائق لتحديد الإخفاقات والمسؤولية في الأحداث والأزمات الكبرى بل تتمتع أيضًا بالسلطة والقدرة على محاسبة أعلى الشخصيات الرفيعة في الحكومة على الإخفاقات التي سببتها واستخلاص الدروس لمستقبل النظام وبقائه.
بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 والتي أسفرت عن مقتل حوالي 1200 إسرائيلي وأسر 251، والآن بعد أن تم التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة (على الأقل ظاهريًا)، احتدم النقاش حول تشكيل مثل هذه اللجنة للتحقيق في أسباب الإخفاقات الأمنية الإسرائيلية. وعلى الرغم من معارضة نتنياهو الشديدة لتشكيل مثل هذه اللجنة، إلا أن تاريخ لجان التحقيق الحكومية في النظام يُظهر أنها يمكن أن يكون لها تأثير كبير وحاسم على البنية السياسية. تعود أصول تأسيس لجان التحقيق الحكومية في إسرائيل إلى زمن الانتداب البريطاني على فلسطين. و من أقدم الأمثلة عليها إنشاء قوائم التحقيق في عام 1921، والتي سمحت للسلطات بتشكيل لجان للتحقيق في القضايا العامة. بعد قيام إسرائيل عام 1948 تطورت هذه الآلية، وفي عام 1968 صدر قانون لجان التحقيق، حيث ينص هذا القانون الذي صدر في 30 ديسمبر من ذلك العام على إنشاء لجان مستقلة للتحقيق في "المسائل ذات الأهمية العامة". [1]
يرأس رئيس اللجنة الذي يعينه رئيس قضاة المحكمة العليا عادةً قاضٍ متقاعد وله صلاحيات قضائية مثل استدعاء الشهود ومراجعة الوثائق السرية وإصدار توصيات ملزمة. منذ صدور القانون تم تشكيل أكثر من 20 لجنة حكومية. غالبًا ما تعمل هذه اللجان استجابةً للضغط الشعبي والأزمات الوطنية والحكومات غير مُلزمة بتنفيذ توصياتها إلا أن الضغط الشعبي والإعلامي بالإضافة إلى حركات المعارضة للحكومة القائمة قد يُجبر الحكومة على قبول قرارات اللجنة (بدرجات متفاوتة من الشدة).[2]
من الأمثلة البارزة على تشكيل هذه اللجان:
لجنة أولشان دوري (1954): أول لجنة شُكِّلت بعد تشكيل النظام الزائف للتحقيق في "قضية لافون" (عملية تجسس فاشلة في مصر). شُكِّلت هذه اللجنة قبل قانون 1968 وأبرزت التوترات بين القيادة السياسية والأمنية، وساهمت في مناقشات مبكرة حول المساءلة ونتيجةً لتحقيق هذه اللجنة، أُجبر بنحاس لافون وزير الحرب في النظام على الاستقالة[3].
لجنة أغرانات (1973-1974): بعد حرب يوم الغفران التي فاجأت إسرائيل، حققت هذه اللجنة في إخفاقات الاستخبارات والجيش. أدى تقريرها الأولي إلى استقالة كبار الجنرالات ورئيسة الوزراء آنذاك جولدا مائير. مثّلت اللجنة "الصدمة الوطنية" وعززت ثقافة المساءلة.[4]
لجنة كاهان (1982): شُكّلت للتحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان. اتهمت اللجنة وزير الدفاع أرييل شارون "بالإهمال الشخصي" وأدت إلى إقالته. ورغم أن رئيس الوزراء مناحيم بيغن لم يستقيل استقالة مباشرة لا أن الضغط الشعبي تصاعد ضد الحكومة.
لجنة فينوغراد (2006): بعد حرب لبنان الثانية (المعروفة بحرب الـ 33 يومًا)، والتي اعتُبرت هزيمة للنظام الصهيوني داخل النظام نفسه، وجهت هذه اللجنة (بصلاحيات رسمية) انتقادات لاذعة للقيادة العسكرية والسياسية، مما أدى إلى استقالة دان حالوتس، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش. كما تعرّض رئيس الوزراء إيهود أولمرت لانتقادات شديدة مما أدى إلى إضعاف مكانته السياسية.[5]
لجنة شمغار (1995): بعد اغتيال إسحاق رابين حققت اللجنة في قضايا أمنية عززت من أمن وحماية المسؤولين.[6]
تجدر الإشارة إلى أن هذه اللجان غالبًا ما تكون "شبه قضائية" وتُنشر تقاريرها. فهي لا توضح الحقائق فحسب بل قد تؤدي أيضًا إلى تغييرات هيكلية، مثل إنشاء لجان كنيست دائمة للشؤون العربية. مع ذلك تتهرب الحكومات أحيانًا من تنفيذ توصياتها بالكامل مما يُضعف ثقة الجمهور بها.
منذ عام 1968 تُعتبر هذه اللجان "مؤسسات موثوقة للديمقراطية الإسرائيلية"، إلا أن تشكيلها يتطلب قرارًا من الحكومة أو أغلبية الثلثين في الكنيست.
من عام 1969 إلى عام 2009، شُكّلت من 3 إلى 5 لجان تحقيق حكومية كل عقد. يُذكر أنه لم تُشكّل أي لجنة تحقيق خلال فترة رئاسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. في عام ٢٠١٠ منع نتنياهو تشكيل لجنة تحقيق رسمية في كارثة الكرمل وفي عام ٢٠١١، حلّ اللجنة الوزارية لشؤون الرقابة المسؤولة عن فحص تقارير الرقابة ونقل إدارة هذه التقارير إلى مكتب رئيس الوزراء، الذي قرر عمليًا عدم تنفيذ أي مقترح لتشكيل لجنة تحقيق رسمية.[7]
احتدم الجدل حول تشكيل لجنة تحقيق رسمية بعد طوفان الأقصى.
كانت عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، التي نفذتها حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، أكبر فشل أمني في تاريخ النظام الإسرائيلي المزيف، حيث دخل حوالي ٥٦٠٠ مقاتل فلسطيني الأراضي المحتلة على ثلاث دفعات و تم ايجاد ٢١ نقطة صراع مما أسفر عن مقتل ١٢٠٠ صهيوني وأسر ٢٥١ منهم.
صدمت العملية اسرائيل كثيرا والتي استغرقت سنوات من التخطيط، وأثارت نقاشات حادة في المجتمع الصهيوني حول تشكيل لجنة تحقيق رسمية فور انحسار الصدمة الأولية. بدأ النقاش في تشرين الثاني 2023، عندما دعت عائلات الضحايا والناجين الصهاينة ومسؤولون سابقون مثل هرتسليا هاليفي (رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي السابق) إلى إجراء تحقيق مستقل.
أمرت المحكمة العليا الإسرائيلية الحكومة باتخاذ قرار بشأن تشكيل لجنة في عدة مناسبات، لكن نتنياهو أرجأ ذلك في كل مرة مشيرًا إلى تشكيلها "بعد الحرب".
حاليًا يُمارس ضغطٌ شديدٌ لتشكيل لجنة تحقيق حكومية في أحداث 7 أكتوبر في النظام الإسرائيلي، وتُصرّ العديد من المؤسسات القضائية والشعبية والسياسية على ذلك. وقد بلغ هذا الضغط ذروته في الأشهر الأخيرة مما أدى إلى إصدار محكمة العدل العليا أمرًا مؤخرًا بتقديم ردّ في غضون 30 يومًا.
في غضون ذلك، ووفقًا لآخر استطلاعات الرأي يُؤيد حوالي 80% من سكان الأراضي المحتلة تشكيل لجنة. في آذار 2024 أفاد جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) بوجود تحذيرات بشأن خطط حماس لكن تم تجاهلها، وألقى باللوم على سياسة نتنياهو في السماح بدخول الأموال القطرية إلى غزة (للحفاظ على السلام).
كيف حال بيبي؟
حول الهزيمة الكبرى للكيان الصهيوني في 7 أكتوبر فقد أكد كل من الجيش وجهاز المخابرات الداخلية وقوع الهزيمة ومداها.
في شباط 2025، أفاد جيش الدفاع الإسرائيلي بأنه كان "فشلاً ذريعاً": وأشار إلى التركيز على التهديد من إيران وحزب الله، وتقليص القوات على حدود غزة، والفشل في تقييم قدرات حماس بشكل صحيح كأسباب رئيسية للهزيمة الكبرى.
في مارس 2025، أكد رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، رونين بار أن "غطرسة" القادة السياسيين بمن فيهم نتنياهو و"عمى بصيرتهم المتأصل" هما العاملان الرئيسيان وراء الهزيمة..
ومؤخرًا في 17 أكتوبر، اعترف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير في إشارة إلى عملية حماس في 7 أكتوبر 2023 بأن الجيش فشل في أداء مهمته الرئيسية في ذلك اليوم والتي شملت حماية النظام والإسرائيليين.[8]
حتى في 3 مارس وافق الكنيست بعد اشتباكات بين قوات الأمن وعائلات السجناء الإسرائيليين داخل البرلمان على طلب المعارضة تشكيل لجنة تحقيق في هجوم 7 أكتوبر.
ومع ذلك رفض نتنياهو وحكومته حتى الآن تشكيل أي نوع من اللجان المستقلة في هذا الصدد.
العواقب المحتملة على نتنياهو
قد يكون لتشكيل لجنة تحقيق حكومية بصلاحيات كاملة عواقب وخيمة على بنيامين نتنياهو. فهذا النوع من اللجان يتمتع بأعلى مستوى من السلطة ويمكنه استجواب رئيس الوزراء مباشرةً.
وقد ألقى تقرير مستقل باللوم عليه بالفعل في "العمل الجماعي الأناني" و"إسكات الأصوات الناقدة" اللذين أديا إلى مأساة 7 أكتوبر
يُفضّل نتنياهو تشكيل لجنة تحقيق حكومية على لجنة تحقيق مستقلة، لأن الحكومة في هذه الحالة ستكون لها السيطرة على الأعضاء والرئيس ومحور التحقيق.
قد يُقلّل تشكيل لجنة مستقلة بشكل كبير من فرص نتنياهو في إعادة انتخابه رئيسًا للوزراء، وقد يستغلّ خصومه السياسيون، مثل يائير لابيد وبيني غانتس، هذه الفرصة لتحقيق أهدافهم الخاصة.
ونظرًا لأن غالبية مواطني النظام (64% وفقًا لآخر استطلاع للرأي) يُريدون تشكيل اللجنة [9]، فإن أي مقاومة من نتنياهو لها قد تُلحق المزيد من الضرر بمصداقيته لدى الرأي العام للنظام وتُعمّق الأزمة السياسية الحالية.
لقد أصبح الوضع المتعلق بتشكيل لجنة التحقيق بمثابة مواجهة خطيرة بين القضاء والرأي العام من جهة، وحكومة نتنياهو من جهة أخرى. يحاول نتنياهو تجنب العواقب السياسية الكاملة للتحقيق المستقل من خلال اقتراح لجنة ذات صلاحيات محدودة وخاضعة لسيطرة الحكومة. في نهاية المطاف، قد يؤدي دور اللجنة إلى "نهاية عهد نتنياهو" على غرار عهد غولدا مائير، لكن نجاحها يعتمد على الضغط الشعبي وقرار المحكمة العليا. إن الجدل الدائر حول من يتحمل المسؤولية في قضية 7 أكتوبر، والمستمر منذ عام 2023 جدي وقد يُسهم في رأب الصدوع العميقة داخل النظام لكن نتنياهو يتجنبه بتأجيله واقترا ح بدائل. في حال تشكيلها من المرجح أن تلعب دورًا في إقالة نتنياهو مع أن احتمال محاكمته مباشرةً بتصويت اللجنة ليس كبيرًا جدًا بعد.
[1] https://jiss.org.il/en/siboni-winner-a-commission-of-inquirysolution-or-problem
[2] https://israeled.org/israels-state-commissions-of-inquiry-law
[3] https://www.irna.ir/news/84974704
[4] https://israeled.org/agranat-yom-kippur-war
[5] https://www.jewishvirtuallibrary.org/winograd-commission-final-report-january-2008
[6] https://versa.cardozo.yu.edu/justices/shamgar-meir
[7] https://www.haaretz.com/israel-news/2025-11-02/ty-article/.premium/netanyahus-long-list-of-excuses-to-delay-an-october-7-state-commission-of-inquiry/0000019a-4157-dec4-a7db-f7f7e61b0000
[8] https://farsi.palinfo.com/2025/10/16/594613
[9] https://fa.shafaqna.com/news/2146922
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال