شهد لبنان تحوّلاً مفصليّاً وتاريخيّاً لم يكن مسبوقاً بعد اجتياحه عام 1982 من قبل جيش الاحتلال «الاسرائيليّ» في عملية أطلق عليها اسم (سلامة الجليل) تلك العمليّة التي كانت الغاية منها تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجيّة الكبرى وفرض مجموعةٍ من الحلول بدعمٍ دوليٍّ وعلى رأسه دعم الولايات المتحدة الأميركيّة وفرنسا.
وبالرّغم من عدم تكافؤ القوى في المواجهة بل ضعف تيار المقاومة وعدم امتلاكه القدرات العسكريّة والأسلحة والعتاد إلّا أنّه تميّز بامتلاكه العقيدة الصّادقة والعزم والثّبات والإصرار على التّصدّي والمواجهة وتغيير المشهد وتحويله من مشهدٍ انهزاميٍّ كان يروّج له الإعلام وتتوفّر له كلّ الإمكانيّات إلى مشهد انتصارٍ بطوليٍّ شكّل أولى مشاهد تلك الانتصارات، التي تجلّت بإعلان المقاومة الشّعبيّة التي أطلقها شيخ شهداء المقاومة الشّيخ راغب حرب الذي رفض استقبال ضبّاط الاحتلال «الإسرائيلي» أو مصافحتهم معلناً أنّ الموقف سلاحٌ والمصافحة اعترافٌ.
موقفٌ تُرجِم على الأرض بمقاطعة الاحتلال والتّصدّي لقوّاته بكلّ ما يملك النّاس من أدواتٍ متواضعةٍ أثمرت تلك الدّعوة إلى تفعيل العمل المقاوم وتطويره وتكثيفه وكسر وتهشيم صورة الجيش الذي قيل بأنّه لا يقهر، موقف شيخ الشّهداء الذي تنامى وكبر حتى غدا كابوساً يلاحق جنود الاحتلال «الاسرائيليّ» الذي لم يجد الحلّ إلّا باعتقال الشّيخ راغب، اعتقال أدّى إلى اشتعال الجنوب وانتفاضته بوجه الاحتلال الذي اضطرّ للإفراج عنه ليعود الشّيخ مستكملاً عمليّة مقارعة الاحتلال الذي اغتاله.
مشهدان أساسيّان شكّلا القاعدة المتينة والمدماك الأصلب للانطلاق بقوّةٍ أكبر في عمليّة التّحرير الثّانية. مشهد انسحاق قوّات المارينز والمظليين الفرنسيين في لبنان، ومشهد استشهاد الشّيخ راغب حرب الذي أشعل الجنوب فكان دمه مشعلاً أضاء طريق التّحرير الأوّل، لتنتقل المقاومة بقيادة أمينها العالم وسيّد شهدائها الشّهيد السّيّد عباس الموسوي إلى مرحلةٍ نوعيّةٍ في أواسط الثّمانينات حين انتقلت إلى مرحلة العمليّات النّوعيّة واستهداف دوريّات مواقع العدوّ بالهجوم المباشر والاشتباك والتّلاحم معه على أرض الموقع. عمليّات أربكت قيادة العدوّ «الإسرائيلي» واستهدافات لضبّاطٍ ومسؤولين حيّرت عقول الجنرالات الصّهاينة الذين عجزوا عن مواجهة استراتيجيّة المقاومة بغير الغدر والاغتيال فقاموا باغتيال السيد عباس الموسوي، اغتيالٌ لم يجنِ منه الاحتلال سوى المزيد من الويلات والمزيد من العمليّات التي تطوّرت إلى حدّ أسر جنودٍ وضبّاطٍ من الصّهاينة وعملائهم بعد تولّي سماحة السّيّد حسن نصر الله لقيادة المقاومة التي تطوّرت بترسانتها العسكريّة وقدراتها الأمنيّة والقتاليّة التي أنجزت التّحرير الثّاني عام 2000 وانتصار تموز عام 2006 وهزيمة الامبراطوريّة الإرهابيّة الدّاعشيّة التي كان للمقاومة دورٌ اساسيٌّ فيها في سورية والعراق والتي لا تزال تواجه أعتى قوى الاستكبار وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة وحلفاؤها.
وعلى مدى كلّ تلك المراحل من نشأة المقاومة وتطوّر أدائها وتراكم انتصاراتها. لا يمكننا أن نستذكر أيّ انتصارٍ أمنيٍّ أو عسكريٍّ أو أيّ أنجازٍ أو تطويرٍ دون أن نذكر توأم الجهاد والانتصارات الحاضرين الأكبر رغم الغياب في قلوب المقاومين القائدين الكبيرين الحاج عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين. فالشّهيد القائد عماد مغنية ذلك الفتى العشريني القادم من أعماق التّجربة النّضاليّة المقاومة والمقاوم الأمميّ الذي ترك بصمةً خالدةً في تاريخ المقاومة ومسارها لا تزال تضيء حتّى اليوم بإنجازاته الحافلة بالانتصارات ولا تزال تضجّ بالعطاء وبالمزيد من الإبداع في العمل المقاوم على كافّة المستويات. فالمقاومة الإسلاميّة التي انطلقت بشائرها براغبها وزهت بعباسها وارتقت بسيّدها الحسن وتنامت بعمادها وتباهت بذي فقارها وحلّقت بطائرات حسّانها… استطاعت أن تغيّر المعادلات وأن تعيد للبنان وجهته الحقيقيّة وأن تكتب تاريخه بنجيع الشّهداء. تلك المقاومة التي لو لم تكن لكان لبنان رهينة ذلك المحتلّ ولتحوّل جنوبه إلى مستعمراتٍ لقطعان المستوطنين.
لولا أولئك الشّهداء لكنّا اليوم مغمورين بثقافة الخزي والعار ولكنّا مشتتين في العالم نستجدي وطناً ننتظر أن تمنحه لنا الأمم المتحدة بقرارٍ يقرّره مجلس الأمن بشطبة قلم، لو لم تكن المقاومة في لبنان لكانت بيروت إمارةً داعشيّةً يحاكم فيها الشّرفاء ويُصلبون على جدران الكنائس ويعلقون على مآذنها. لو لم تكن المقاومة لكان خصومها العاجزين سماسرة الأوطان أوّل من باعوا الوطن لسيّدهم الأميركي والسّعودي و»الإسرائيلي».
لو لم تكن المقاومة لكان لبنان رهينة حروبٍ أهليّةٍ ولكان خصومها الذين لو امتلكوا جزءاً صغيراً من قوّتها أوّل المبادرين لإشعالها، لو لم تكن المقاومة لما بقي من العروبة إلّا اسمها ومن الكرامة إلّا شكلها. تلك هي مقاومتنا التي نفتخر بها تلك هي العين التي قاومت المخرز «الاسرائيليّ» وكسرته وانتصرت، تلك هي مقاومتنا التي يجهلها الخصم الذي ننصحه بقراءة بداياتها عام 1982 وما أنجزته ثلّةٌ من الأوّلين، ودقّقوا بين السّطور جيّداً لعلّكم تدركون أنّ مقاومة قادتها شهداء لن تهزم وأنّها ماضيةٌ بإذن ربّها وعلى هدي قائدها الأمين السّيّد حسن نصرالله قائد زمن الانتصارات…
شوقي عواضة
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال