عجزت أميركا التي قادت الحرب الكونية على سورية، عن تحقيق أهداف هذه الحرب التي اندلعت نارها منذ 11 عاماً وحشد لها خلال تلك المدة اكثر من 360 ألف مسلح وإرهابي من 83 دولة، وسخرت لأجلها المئات من المنصات العالمية المتنوّعة بين المكتوب والمرئي والمسموع واعتمدت فيها أساليب وأنواع الحروب من الجيل الثالث الى الخامس، ورغم كلّ ذلك فشلت تلك الحرب التي تحلّ الذكرى الحادية عشرة لإطلاقها بعد شهر من الآن. حرب فشلت في تحقيق أهدافها وتمكنت سورية بقواتها الذاتية أولاً ثم بمساعدة من الحلفاء في محور المقاومة ثم الأصدقاء الروس، تمكنت من صدّ العدوان واستعادت السيطرة الكاملة على معظم الأرض السورية (75٪ من مجمل المساحة السورية) وأن تتواجد بمستويات مختلفة في القسم الذي يمارس الاحتلال الأميركي او الاحتلال التركي السيطرة عليه، او في المنطقة التي أفسد الإرهاب أمنها او زوّرت النزعة الانفصالية الكردية هويتها.
ومع هذا النجاح المميّز وضعت الدولة السورية استراتيجية وطنية من أجل استكمال النجاح واستعادة او العودة الى الحياة الطبيعية بالمقدار الذي تتيحه الظروف المتشكلة. واقامت تلك الاستراتيجية على قوائم أربع سياسية وعسكرية ومجتمعية ـ مدنية واقتصادية.
ففي السياسة قامت الحكومة السورية بإجراء الانتخابات في مواعيدها رغم كلّ العراقيل التي وضعت أمامها، كما راعت انتظام الحياة القانونية في البلاد وانتظام الحضور الفاعل في المنظمات الدولية واتجهت لاستغلال أيّة فرصة تلوح لاستعادة العلاقات مع الدول العربية بخاصة المجاورة منها كلبنان والأردن والعراق، سعي جاء معطوفاً على مسعى جزائري لتهيئة البيئة المناسبة لعودة سورية لإشغال مقعدها في الجامعة العربية بدءاً من اجتماع القمة المرتقب انعقاده في الأشهر الثلاثة المقبلة.
وفي الشأن الأمني والعسكري حرصت الدولة السورية على الاستمرار في مدّ الجيش والقوات المسلحة الأخرى بكلّ أسباب القوة المادية والمعنوية من أجل استمرار النجاح في أداء المهام الوطنية واتجهت الى إجراء عملية تحشيد عسكري فاعل في محيط المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة؛ عملية ترمي الى العمل على خطين خط المشاغلة العسكرية لتعهّد الميدان تحضيراً ليوم التحرير بالقوة ان فشلت مساعي التحرير الأخرى ودعماً للمقاومة الشعبية بوجهيها المدني والمسلح، والتي تشكلت في المناطق المحتلة.
أما على الصعيد المدني ـ المجتمعي والملاحقات القضائية فقد عملت سورية بقواعد العدالة الانتقالية والمتضمنة العفو والمصالحة وأطلقت ما أسمي «التسويات» لأوضاع الفارّين من الخدمة العسكرية او من وجه العدالة خاصة ممن لم تلوّث أيديهم بسفك الدم السوري. وقد نجح مسار التسوية هذا في استعادة أجزاء من الشعب خاصة الشباب منهم الى حضن الدولة فتوقفت الملاحقات بشأنهم ووفر ذلك للدولة أكثر من منفعة ومصلحة وحرم أعداء سورية من مصدر مهم لتحشيد المقاتلين ضدّ دولتهم.
ويبقى الشأن الاقتصادي الذي شكل الخاصرة الرخوة في الوضع السوري بسبب الحرب الاقتصادية الظالمة والإرهاب الاقتصادي الوحشي الذي تمارسه أميركا ومَن معها ضدّ سورية، وتحاول سورية استعمال المتاح من الإمكانات وما يتوفر لها من مساعدات من الحلفاء والأصدقاء تحاول وضع الخطط الاقتصادية التي تتكيّف مع الواقع الصعب القائم تكيفا يخفف أولاً من سلبياتها ثم يخرجها منه بعد حين.
في مقابل الاستراتيجية الوطنية التي أطلقتها سورية لاستعادة الحياة الطبيعية في البلاد بعد انكسار وهزيمة من شنّ الحرب الكونية عليها. في مقابل ذلك يبدو أنّ أميركا التي تكابر وترفض الإقرار بالهزيمة رغم انّ إعلامها يصرّح بذلك، يبدو أنها وضعت استراتيجية عدوانية مضادة بدأت ملامحها تتبيّن في الميدان وهي استراتيجية عدوان متجدّد، وصحيح أنها لا تتمادى لتصل بأهدافها الى حجم أهداف الحرب الكونية الأساس التي رمت الى إسقاط الدولة السورية كلياً وتفكيكها ثم إعادة تركيبها بما يناسب المشروع الصهيوأميركي في المنطقة، استراتيجية ترمي الى منع سورية من استثمار انتصارها والحؤول دون عودتها للحياة الطبيعية.
وعليه يبدو أنّ أميركا اعتمدت في سورية استراتيجية عدوان يمكن تعريفها بانها «استراتيجية استمرار العدوان وتعهد الإرهاب لمنع العودة للحياة الطبيعية» وهي تنفذ على الوجه التالي:
ـ على الصعيد السياسي ترمي الى الحدّ من تفعيل علاقات سورية بالخارج دولاً ومنظمات، ولذلك نجد كيف انّ أميركا عبر قطر تعارض عودة سورية الى مقعدها في الجامعة العربية وتراوغ لتعرقل العلاقات السورية مع دول الجوار. والمثل الأخير هنا عرقلة مسعى لبنان للاستفادة من الغاز المصري والكهرباء الأردنية رغم كلّ الوعود الأميركية التي أطلقت منذ عدة أشهر.
ـ أما على الصعيد الاقتصادي فهي تستمرّ بالتشدّد في الحرب الاقتصادية تحت عنوان «قانون قيصر» وتتوخى مزيداً من الضغط على الشعب السوري حتى لا يثق بحكومته او يعود للميدان احتجاجاً على النقص في الخدمات. فالحرب الاقتصادية هي ركن أساس من أركان العدوان الأميركي المستمر على سورية.
ـ اما التسويات المدنية القضائية فإنّ أميركا تنظر اليها بعين الخشية والرفض لأنها ترسي دعائم السلام المدني بين الشعب والدولة وتستعيد من غرّر بهم او أخطأوا بحق وطنهم تستعيدهم الى الوطن ليساهموا في إعماره من جهة، ويفقدوا أعداءه منجماً ومصدر تحشيد وتجنيد لذلك تعمل أميركا بشتى الطرق لعرقلة مسار التسويات تحت شعار «الحرب لم تنته بعد». وهو كلام يجافي الواقع.
ـ على الصعيد الأمني والعسكري، اتجهت أميركا الى تفعيل تنظيم داعش الإرهابي وأعادت انتشار عناصره بعد ان أطلقت العدد الكثير منهم من سجن الصناعة في الحسكة، ونقلت المئات من إرهابيّيه بطائراتها ونشرتهم في ميادين إرهاب محدّدة من قبلها في العراق وسورية ثم قامت بمسرحية قتل القرشي زعيم داعش في عملية عسكرية لم يطلع على تفاصيلها أحد من غير الأميركيين مما جعل الكثيرين من العقلاء يشككون بحدوث القتل ويتجهون للقول بانّ أميركا أرادت ان تسجل انتصاراً وتظهر عزماً على قتال داعش فنظمت هذه المسرحية الوهمية وهي تشتهر بالتلفيق وإخراج المسرحيات الوهمية.
إنّ الموضوع الأمني هو الآن الى جانب الإرهاب الاقتصادي هو الركن الأساس في استراتيجية العدوان الأميركي، وهو موضوع بدأت أميركا بالعمل عليه وتنفيذه منذ ثلاثة اشهر تقريباً وبات في مراحل متقدمة ويهدف الى زعزعة الأمن والاستقرار في المناطق المطهّرة وإشغال القوى العسكرية والأمنية السورية لمنعها من استكمال عمليات التطهير والتحرير لما تبقى من أرض سورية، وتعطيل الحياة وعجلة الإنتاج في المناطق التي تحكم الدولة سيطرتها عليها خاصة في المدن الكبرى، ولذلك جاء التحذير الروسي من هذا الأمر تحذيراً صدر عن المخابرات الروسية التي اعتمدت هذا الأسلوب في الإعلان لتبلغ أميركا بأنّ خططها الإرهابية العدوانية هي تحت مراقبة العين الأمنية الدفاعية السورية والحليفة.
أمام هذا المشهد يطرح السؤال ماذا تتوخى أميركا من خططها الإجرامية تلك؟ وهي تعرف انّ هجومها الأساسي الذي كان قد حشدت له كمّاً أكبر من المشاركين وسخرت له الأموال الأكثر ونفذته قواعد أوسع من الإرهابيين ورغم ذلك لم ينجح في إسقاط سورية، فما الذي تبتغيه الآن من استئناف العدوان المتجدد؟
لا نظنّ انّ أميركا تريد في نهجها الجديد «إعادة إحياء ما تسمّيه الثورة السورية» وهي أعجز من ذلك ولا يمكن ان تتصوّر أنها بهذه الاستراتيجية وفي ظلّ المشهد الدولي المتغيّر لغير صالحها فضلاً عن المناعة السورية الأساسية والمكتسبة قادرة على تعويض ما فاتها في الحرب الكونية الفاشلة، يبقى أن نظنّ او نعتقد بأنّ أميركا تريد من فعلها العدواني المتجدّد بالصيغة المتقدّم ذكرها تبتغي ان تبعد عن نفسها أولاً كأس الهزيمة في سورية لأنها لا تحتمل ذلك الآن بعد الخروج المهين من أفغانستان، ثم تريد أن تشغل سورية وحلفاءها بورقة ضغط عليهم لإعطائها شيئاً ما في المشهد السوري، فأميركا تريد أن تمتلك أوراق ضغط للتنازل السوري ولا نعتقد أنها تطمح بتحويلها الى عناصر تغيير وانتصار استراتيجي ضدّ سورية وحلفائها الذين يعملون مطمئنين لإنجازاتهم ولمستقبلهم الواعد خلال الأشهر الآتية… أشهر لن تحمل لأميركا ما يسرّها في الميدان او السياسة.
العميد د. أمين محمد حطيط
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال