463
لطالما واجهت الحكومة البريطانية العديد من المشاكل الاقتصادية في السنوات الأخيرة، ورغم نجاح السياسات الاقتصادية المختلفة للبنك المركزي إلى حد ما، وقدرتها على توفير أساس للنمو الاقتصادي، إلا أن الهدف المطلوب و البالغ 2% كمعدل للتضخم لا يزال بعيد المنال. ويبدو أن انعدام الأمن الاقتصادي العالمي والحرب في أوكرانيا وحرب التعريفات الجمركية هي العوامل الرئيسية في هذا الشأن.
تعكس خطة الميزانية الجديدة لحكومة ستارمر للخريف المقبل، والتي ستُعرض قريبًا سياسة الحكومة بشكل أفضل. ورغم أن شعار الخطة المالية الجديدة هو دعم التوظيف وتحسين الوضع الاقتصادي، وخاصةً للسكان النشطين، إلا أن الفجوات المالية والديون الحكومية والأطر المالية ستجبرها على إعادة النظر في ميزانية التقشف. في الواقع ليس أمام حكومة حزب العمال خيار سوى زيادة الضغط على الشعب وأنظمة الرعاية الاجتماعية في البلاد.
وفي هذا الاتجاه تسعى الحكومة إلى زيادة الضرائب وإصلاح هيكل النظام الضريبي. في ميزانية خريف 2025 ستكون حكومة المملكة المتحدة في وضع يسمح لها بتحقيق التوازن بين الحاجة إلى زيادة الإيرادات وتجنب الضغوط التضخمية. ومن المتوقع أن تتخذ السياسة الضريبية خلال هذه الفترة شكل تغييرات غير مباشرة أو "زيادات خفية". أي أن الحكومة ستسعى بشكل غير مباشر إلى زيادة إيراداتها وخفض الدين نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي. ويشمل ذلك الحفاظ على عتبات الإعفاء الضريبي ثابتة (تجميد)؛ ونتيجةً لذلك ومع ارتفاع الأجور يخضع جزء أكبر من دخل الأفراد للضريبة. بالإضافة إلى ذلك من المرجح إجراء إصلاحات على ضريبة الميراث وضريبة أرباح رأس المال لتعزيز الإيرادات الحكومية. وقد تسبب هذا سابقًا في استياء عام وحتى احتجاجات واسعة النطاق في المملكة المتحدة واسكتلندا ويبقى أن نرى ما إذا كان حزب العمال سيُخاطر بهذه القضايا مرة أخرى.[1]
ضف إلى ذلك سيظل التركيز في قطاع الشركات على جذب رأس المال وتعزيز الإنتاجية ولكن من المرجح أن تكون هناك زيادات محدودة في الضرائب على أرباح الاستثمار والشركات الكبيرة. وعدت الحكومة أيضًا بالإبقاء على معدلات رئيسية مثل ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة دون تغيير، إلا أن الضغوط لمعالجة عجز الموازنة الضخم أدت إلى مراجعة بعض الحوافز الضريبية للمعاشات التقاعدية والطاقة والشركات الصغيرة. الهدف الضمني هو جمع المزيد من الأموال دون الإضرار بالنمو بشكل مباشر، على الرغم من تحذير الخبراء من أن الجمع بين هذه السياسات قد يثبط الاستثمار الخاص ويكبح الاستهلاك على المدى القصير مما قد يطغى تمامًا على النمو الاقتصادي.[2]
فيما يتعلق بالإنفاق تخطط الحكومة للتحرك بين مسارين مختلفين. الأول هو ضبط الإنفاق الجاري، والثاني زيادة الاستثمار في البنية التحتية لدعم النمو الاقتصادي. لذا يستمر الضغط على الخدمات العامة، وخاصة في مجالات الصحة والتعليم والإسكان مما يعني زيادة الضغط على الطبقة المتوسطة، وزيادة ضعف القدررة الشرائية عند الناس، ووضع ضغوط على النظام الصحي. على الرغم من أن الحكومة قد وعدت بتخصيص المزيد من الموارد للمشاريع الرئيسية؛ إلا أن هذه المشاريع تشمل مشاريع مثل توسيع شبكة السكك الحديدية وإعادة بناء البنية التحتية للطاقة الخضراء ودعم الصناعات الدفاعية والعسكرية.
ومع ذلك، تمنع القيود المالية إنفاق كامل الميزانية على هذه المشاريع. عمليًا من المرجح أن يُعوّض عن الزيادة الفعلية في ميزانية مشاريع البناء بخفض أو استقرار الإنفاق الحكومي الحالي حيث تسعى الحكومة إلى خفض الإنفاق لتمويل المشاريع اللازمة للنمو الاقتصادي.
من المتوقع طرح سياسات جديدة لجذب استثمارات القطاع الخاص في الإسكان والتكنولوجيا بما في ذلك مساهمات رأسمالية وإعفاءات ضريبية مستهدفة للمستثمرين الأجانب. يقول الاقتصاديون إنه على الرغم من أن التركيز على الاستثمار طويل الأجل هو القرار الصحيح إلا أنه قد يؤدي إلى نقص السيولة على المدى القصير في القطاع العام.
بشكل عام، يتجه مسار إنفاق الميزانية نحو ضبط الأوضاع المالية ووضع أسس النمو طويلة الأجل على مدى العقد المقبل أكثر من كونه حافزًا اقتصاديًا قصير الأجل للتغلب على الأزمة، ولهذا السبب لا يزال اقتصاد المملكة المتحدة يواجه تحديات كبيرة، ولا يزال الضرر الذي يلحق بمختلف شرائح السكان قائمًا، خاصة في ظل التوقعات بأن هدف التضخم البالغ 2% لن يتحقق بنهاية عام 2026، وقد يستمر هذا الضغط على المواطنين العام المقبل.
بالنظر إلى السياسات المالية لحكومة حزب العمال، يواجه سوق العمل في المملكة المتحدة في عام 2025 وضعًا متناقضًا إلى حد ما. فمن جهة لا يزال معدل التوظيف مرتفعًا، ولا يزال أصحاب العمل يواجهون نقصًا في العمالة الماهرة في بعض القطاعات؛ ومن جهة أخرى لا يزال نمو الأجور الحقيقية سلبيًا بسبب ارتفاع التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة. وتتعهد ميزانية خريف 2025 بتخفيف الضغط على سوق العمل من خلال تنفيذ برامج مثل توسيع نطاق التدريب على المهارات وتشجيع إعادة التوظيف لمن تزيد أعمارهم عن 50 عامًا.
لكن الخبراء يقولون إن التأثير الحقيقي لهذه السياسات سيكون محدودًا على المدى القصير.
لقد أدى ارتفاع الضرائب غير المباشرة واستمرار ركود الأجور الحقيقية إلى انخفاض القدرة الشرائية للأسر، مما دفع المستهلكين إلى الإنفاق بحذر والسعي إلى إدارة دخلهم لتجنب المشاكل. في الوقت نفسه لا تزال تكاليف السكن والطاقة أعلى من متوسطاتها قبل الأزمة في عام 2022، وتعاني العديد من الأسر من الديون المتراكمة، وقد وعدت الحكومة بدعم موجه للأسر ذات الدخل المنخفض من خلال دعم الطاقة وزيادة الحد الأدنى للأجور، ولكن من المرجح أن يعوض الأثر الصافي جزئيًا فقط الضغوط التضخمية. يتوقع المحللون عودة نمو دخل الأسر الحقيقي إلى المنطقة الإيجابية في النصف الثاني من عام 2026 مع انخفاض أسعار الفائدة وأسعار الطاقة.[3]
ونتيجة لذلك يُشير نهج حكومة ستارمر في ميزانية الخريف إلى ضغط كبير على الحكومة. حيث يجب تحقيق التوازن الصحيح بين خفض عجز الموازنة والنمو الاقتصادي وسبل عيش المجتمع حتى لا تُدفع البلاد إلى أزمات اجتماعية وسياسية، ومن ناحية أخرى يتمتع حزب العمال بفرصة للفوز في الانتخابات المقبلة. خاصة وأن الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا وبريطانيا قد اكتسبت أيضًا حياة جديدة.
إذا لم تسر السياسات المالية للحكومة على ما يرام، فسيكون لدى اليمين فرصة كبيرة للسيطرة على الحكومة. لذلك فإن حساسية الحكومة البريطانية تجاه صياغة ميزانية تغطي جميع الاحتياجات أمر مفهوم و واضح، وإذا تمكنت من إطلاع الشعب على نهجها في تنفيذ خطة نمو طويلة الأجل وإقناع الشعب والمضي معه لتحقيق طموحاته فقد تتمكن من تجاوز هذه الأزمة بأمان.
أمين مهدوي
[1] Budget Predictions | Autumn Budget 2025 - BDO
[2] Monthly Economic Review - November 2025 | Insights | UK Finance
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال