نهل من ثقافات متعددة وتزوّد بتجارب متنوعة فهداه رب العالمين إلى الإسلام، ليصبح أحد أبرز الشخصيات الإسلامية الغربية في عصرنا، وله العديد من الكتب والمؤلفات، إلى جانب نشاطه الفكري والدعوي الذي ظل مواظباً عليه حتى رحيله عن عالمنا في 13 يناير 2020م.. إنه الدبلوماسي والمفكر الألماني مراد هوفمان.. والذي زار مكة المكرمة والمدينة المنورة وسجل مشاهداته حولهما.
ولــــــد مراد ويلفريد هوفمان في أسرة كاثوليكية بتاريخ السادس من يوليو عام 1931م، في بلدة كبيرة تسمى أشافينبرج تقع إلى الشمال الغربي من إقليم بافاريا بألمانيا.
ويشير سجله المهني إلى أنه عمل بالخارجية الألمانية منذ عام 1961م، حيث تقلد عدة مناصب في بعثاتها في برن وباريس، وبروكسل، وفيينا، وبلجراد. ومن خلال عمله بالقســـــم السياسي بالخارجية تولى مسؤولية العلاقات الألمانية مع الهند وباكستان، وسيلان، ونيبــــــال، وبوتان. وكذلك عمل سفيراً لبلاده في الجزائر بين عامي 1987 و1990م، لينتقل إلى المغــرب حتى عام 1994م، فيما كان آخر منصب رسمي يتولاه المستشار الإعلامي لحلف الناتو في بروكسل.
بلوغ المراد
وقد جاء اعتناقه الإسلام عام 1980م تتويجاً لسنوات طويلة من التفكير العميــق والدراسة المقارنة بين حضارة الغرب وقيمه وآيديولوجياته، وبين الإسلام وفلسفته وإنجازاته الحضارية على مستوى الفرد والمجتمع. وأورد عن يوم إسلامه بتاريخ 25 سبتمبر 1980م في كتاب ״يوميات مسلم״: (نطقت الشهادتين في المركز الإسلامي بكولونيا ـ لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ واخترت لنفسي من بين الأسماء الإسلامية مراد فريد، وأصبحت منذ اليوم مسلماً وهكذا بلغت مرادي). وأثـــــــار إسلامه قدراً كبيراً من الاهتمام والجدل، وكذلك الحرج في الغرب، وذلك لمكانته الكبيرة في الأوساط السياسية والاجتماعية هناك.
في مكة المكرمة
وبعد إسلامه قدِم هوفمان إلى الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج والزيارة، وسجل في يومياته انطباعاته عن رحلته إلى المدينتين المقدستين، حيث كان دخوله مكة المكرمة في 20 ديسمبر 1982م، ومما كتبه في هذا الخصوص: دخلنـــــا المسجد الحرام ـ مرتدين ملابس الإحرام البسيطة البيضاء ـ مستقبلين الكعبة الكائنة في قلب رحبة داخلية فسيحة.. وإنها للحظة لا يجرؤ المسلم أن يحلم بها قبل حدوثها، فعنـدمـا يشهد المرء بأم عينيه آثاراً معمارية أو طبيعية اعتاد على رؤيتها في الصور والأفلام فإنه غالباً ما يصاب بإحباط شديد عندما تأتي الحقيقة دون الخيال، ولكن الأمر كان مختلفاً في هذه الحالة.
ويتابع سرد مشاهداته: ساد الانسجام أثناء أداء صلاة الجماعة في صمت مطبق يصون لكل امرئ استقلاله الذاتي.. كان هناك عشرة آلاف حاج وزائر يطوفون حول الكعبة، وكم كان تأثير ذلك آخذاً بالألباب، وغمرتنـــا مشاعر دافقة بالترحيب والاحساس بالأمان التام بين أخواننا.. هناك أدركنا معنى تحية ״السلام عليكم״ وقد بدت نابضة بالحياة حيث تتجسد الكرامة، والجمال والإيمان والأممية.. لقد شعرنا بأننا مثل ذرات في وحدة كونية كبيرة، حيث تختفي في مكة الفوارق بين الأجناس، وخلال ركوعي في الصلاة فقط أدركت من الأقدام المختلفة الألوان أن كل الأجناس والقارات ممثلة هنا.
وبعــــــد أن طفنا سبع مرات حول الكعبة تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم الساطعة، توقفنا عند الحجر الأسود الذي وضعه في مكانه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث انهال عليه الناس تقبيلاً.. أدينـــــا منسك السعي مهرولين سبعة أشواط بين جبلي الصفا والمروة التوأمين، واللذين يقعان بجوار المسجد الحرام ويشكلان جزءاً منه، ولابد أن المطوّف قد شق عليه أن يسمعنا ونحن نتعثر في نطق الأدعية المأثورة بلهجتنا المروعة!
إن هذا الوعي التاريخي خليق بدين ترجع شعائر الحج فيه إلي إبراهيم عليه السلام، شريطة أن يكون الحاج على علمِ كافٍ بالمضامين التاريخية والرمزية للطقوس التي يؤديها بطبيعة الحال.
يوم عرفة
وأفاض هوفمان في سرد انطباعاته عن يوم عرفة وكتب: يستعد الحجيج فى ليلة التاسع من ذى الحجة للوقوف فى عرفات، إذ إن ״الحج عرفة״، فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج كله، فلا عجب إذن أن يشعر الجميع بشيء من الارتباك والقلق.. نسألك يا ربنا أن تيسّر أمورنا ولا تعسر منها شيئاً يارب العالمين.. وها نحن أخيراً أكثر من مليونى حاج، يلتف كل منا بلباس أشبه ما يكون بـ״الكفن״ في مشهد يحيطه الجلال ويجل عن الوصف، وكلٌّ منّا يلبّي: ״لبيك اللهم لبيك״.. من يا ترى في الغرب يستطيع أن يستوعب هذا التكريس وهذا التفاني في العبادة؟
واستطرد: كان معي في الخيمة مسلم أمريكى؛ أستاذ إحصاء اقتصادي في جامعة جورج واشنطن.. وقد صلينا وتأمّلنا، ثم صلينا وتناقشنا، ثم صلينا الساعة تلو الساعة.
وتابع هوفمان تسجيل انطباعاته ووصف الشعائر في مزدلفة ومنى حتى الوصول إلى مكة قبل الشروق بقليل، فكتب: لقد كنا متعبين منهكين إلى حدٍ يفوق الوصف، إلا أننا كنا في حالٍ من السعادة والسرور بقدر يفوق الوصف أيضاًً، وطفنا طواف الإفاضة؛ وهو الطواف قبل الأخير في ״رحلة الحج״، وتأملت الكعبة المشرفة.. هذا البيت الذي يعبّر عن ״التوحيد״ بأجلى معانيه ولا ينافسه بيت على وجه المعمورة، وقد تجلت الكعبة المشرفة ببهاء معماري أخّاذ كامل؛ ببساطة بنائها وليس بتعقيده أو زخرفته.
يسرد مراد هوفمان تفاصيل دخوله المسجد النبوي، حيث كتب: تـوجهنـا في المساء سيراً على الأقدام إلي الحرم النبوي لأداء صلاة المغرب.. ولم نستطع زيارة القسم التاريخى الصغير في المسجد ـ الروضة النبوية الشريفة ـ إلا حوالي منتصف الليل عندما فرغ المسجد من أكثر المصلين.
ويفيض في الحديث عنها: كانت هذه الروضة الشريفة خلال عهد النبى صلى الله عليه وسلم تحيط بها بيوت أزواجه؛ أمهات المؤمنين.. وقد دُفن حبيبنا صلى الله عليه وسلم فى حجرة أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، ودُفن معه وزيراه وصاحباه الكريمان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما.. وهنا نجد كثيراً من الحجاج يُجهشون بالبكاء ولا يستطيعون تمالك أنفسهم على الإطلاق.. ألم يحلموا سنواتٍ طويلة أن يأتوا ليزوروا من غيرت رسالته حياتهم؟
الآثـار العلمية للدكتور مراد هوفمان
ـ نهج فلسفي لتناول الإسلام ـ 1983م ـ بالألمانية.
ـ دور الفلسفة الإسلاميـــــة ـ 1985م ـ بالألمانية.
ـ يوميـات مسلــم ـ 1987م ـ بالإنجليزية، ونشر عام 1990م بالألمانية والفرنسية، وترجم إلى اللغة العربية عام 1993م.
ـ الإسلام هو البديل ـ 1992 ـ بالألمانية، وأعيد طبعه 1996م، ثم نشر بالإنجليزية والعربية 1999م.
ـ الطريق إلى مكـــة ـ بالإنجليزية ـ وترجم إلى العربية عام 2000م.
ـ الإسلام في الألفية الثالثة عام 2000م ـ بالإنجليزية وترجم إلى العربية في 2001م.
ـ خواء الذات والأدمغة المستعمرة ـ ترجم إلى العربية عام 2002م.
تجدر الإشارة إلى أن كتاب ״الإسلام كبديل״ يعد من أجرأ ما نشر باللغة الألمانية، وأحدث ضجة لفتت الأنظار إليه داخل ألمانيا وخارجها عندما نشر عام 1992م، فهو لم يعرض بعض جوانب الإسلام عرضاً تقليدياً، ولم ينطلق من منطلق الدفاع عنه تجاه ما يتعرض له من صور عدائية، بل طرح الإسلام باعتباره البديل الضروري والأفضل مما يعتنقه المجتمع الغربي من تصورات في مختلف الميادين، وأن الإسلام يقدم الحلول لكل المشكلات الاجتماعية والثقافية المستعصية.
وقدم شهادة واقعية جداً من خلاله عندما كتب: لابــــد أن نعلم أن لديننا رباً يحميه، فصورة المسلمين اليوم وما يفعله بعض المتشددين يصدم العقلية الغربية في الإسلام، ولكنــــي أقول إن الله تعالى سيظهر دينه وسينتشر أكثر مستقبلاً، فالإسلام هو الدين البديل والأقوى اليوم للبشرية الغربية التي تعاني بقسوة وتبحث عن بديل ولن تجده إلا في الإسلام، وأعتقد أن المستقبل مملوء بالتفاؤل والأمل الكبير لإسلامنا.
المصدر: الحج والعمرة
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال