يبدو أن آل سعود غير مستعجلين في إتمام المصالحة قبل الحصول على مزيد من التنازلات التركية في القضايا التي تهمهم.
في موقف كان متوقَّعاً، بعد عام من تصريحات إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئيس إردوغان، والذي قال في الـ 26 من نيسان/أبريل من العام الماضي، “إننا نثق بالقضاء السعودي”، طلبت النيابة العامة في إسطنبول إغلاق ملف قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وأحالته على السعودية بحجة “أن المتهمين أجانب”.
وهذا ما كانت عليه حال النيابة العامة منذ أعوام، حينما تلقَّت التعليمات، فعلَّقت (في مقابل عشرين مليون دولار تبرعت بها “تل أبيب”) جميع الملاحقات القضائية في المحاكم التركية والدولية ضد الضباط الإسرائيليين، الذين قتلوا عشرة من الأتراك في سفينة مرمرة عندما كانت في طريقها إلى غزة، نهاية أيار/مايو 2010.
قرار النيابة، الخاص بجريمة الخاشقجي، جاء دعماً لمساعي الرئيس إردوغان للمصالحة مع آل سعود، بينما يبدو الأخيرون غير مستعجلين في هذا الموضوع قبل الحصول على مزيد من التنازلات التركية في القضايا التي تهمهم، ومنها الدور التركي في الترتيبات الجديدة في المنطقة، في مجمل محاورها الرئيسة، في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وفيما يتعلق بإخوان مصر.
ويفسّر ذلك تأخر القاهرة في الرد على التودّد التركي من أجل المصالحة معها، وهو الأمر الذي تساهم فيه الدوحة منذ فترة طويلة، وتُرجِم أخيراً بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني للقاهرة، ولقائه نظيره سامح شكري، بعد يوم من لقاء العقبة السداسي، وبعد ثلاثة أيام من قمة شرم الشيخ، إذ أعلنت الرياض دعمها للبنك المركزي المصري بخمسة مليارات دولار (في مقابل ماذا؟)، وهو ما تفعله بين الحين والآخر، ومعها أبو ظبي، منذ إطاحة حكم الإخوان المسلمين في الـ 3 من تموز/يوليو 2013، وإعلان الإخوان تنظيماً إرهابياً.
أغضب ذلك وقتها الرئيس إردوغان، الذي أعلن نفسه “حامي” الإخوان المسلمين، وكل الإسلاميين في المنطقة والعالم أجمع. وحظي ذلك بدعم، سراً وعلناً، من واشنطن، التي أحالت ملف الإخوان (في سوريا وليبيا بالذات) على تركيا، بعد أن كان هذا الملف تحت تصرف الرياض منذ لقاء عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأميركي روزفلت، في شباط/فبراير 1945. وأصبحت السعودية بعد ذلك التاريخ، بأموالها ومذهبها، في خدمة واشنطن ضد كل من يفكر في التصدّي لمشاريعها ومخططاتها في جميع أنحاء العالم.
الدعم الأميركي للرئيس إردوغان، خلال أعوام ما يُسمى “الربيع العربي” وتراجع الدور السعودي، وما أدى إليه من خلل في التوازنات الإقليمية بعد انحياز آل ثاني إلى جانب الرئيس إردوغان، يبدو أنه بدأ يتراجع، وهو ما يفسّر استعجال إردوغان في المصالحة مع الرياض والقاهرة وأبو ظبي، والأهم من كل ذلك مع “تل أبيب”.
فبعد الزيارة التي قام بها هرتسوغ لأنقرة في الـ 9 من آذار/مارس، وحديث إردوغان عن زيارة قريبة لرئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، نفتالي بينيت، لتركيا، قال الوزير جاويش أوغلو إنه سيزور “إسرائيل” أواسط أيار/مايو، أي بعد رمضان المبارك (قد يكون 14 أيار/مايو) بدلاً من نيسان/أبريل، الموعد الذي كان معلَنا عنه سابقاً، في وقت تتوقع المعلومات تبادل زيارات تركية ـ سعودية خلال رمضان، على أن تكون زيارة إردوغان للرياض أو جدة هي المفاجَأة الكبرى، هذا إذا ما اتفق محمد بن سلمان مع حلفائه، بما فيهم “إسرائيل”، بشأن هذا الموضوع. وهو ما يجعل المصالحة مع “تل أبيب” معياراً عملياً يُثبت من خلاله إردوغان صدقيته في التراجع عن سياساته السابقة، بحيث قال ما قاله عن حكام الدول التي يسعى لمصالحتها، ومهما كلّفه ذلك من مواقف جديدة، وأهمها التخلي عن الإخوان المسلمين و”التضامن مع “تل أبيب” في حربها ضد الارهاب” ( بيان السفارة التركية في “تل أبيب”)، والمقصود بها العمليات البطولية التي نفذها الشبّان الفلسطينيون ضد الاحتلال، الذي سبق لإردوغان أن هاجمه في أكثر من مناسبة، وبعبارات عنيفة جداً، ومنها “أن “إسرائيل” هي “دولة” الإرهاب والقتل والإجرام”.
ولم ينسَ إردوغان استنكار بلاده إطلاقَ المسيّرات اليمينة ضد الأهداف السعودية، وهو الذي سبق له أن اتَّهم السعودية بعد مقتل جمال خاشقجي، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، بـ”استهداف اليمن وقتل الأبرياء من دون أيّ مبرِّر”، ناسياً أنه هو أيضاً الذي أعلن، في الـ 26 من آذار/مارس 2015، تأييده العدوان الخليجي على اليمن. كما أنه نسي أو تناسى كل ما قاله بشأن وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، بعد مقتل خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، بحيث سافر إلى واشنطن شخصياً (الـ 13 من تشرين الثاني/نوفمبر 2019)، وسلّم الرئيس ترامب الملف الخاص بالجريمة، مدعوماً بالصور والتسجيلات الصوتية والمرئية.
جرى ذلك كله في الوقت الذي كان الإعلام الموالي لإردوغان يشنّ هجوماً عنيفاً جداً ضد ابن سلمان، متهماً إياه بـ”القتل والإجرام”، داعياً الدول الإسلامية إلى “تشكيل هيئة مشتركة للإشراف على إدارة الأراضي المقدسة، ليس فقط في موسم الحج، بل بصورة دائمة”. كما استغلت أنقرة جريمة قتل خاشقجي من أجل شن هجوم عنيف ضد آل سعود، ليساعدها ذلك على إبعاد الإسلاميين العرب عن الرياض، وخصوصاً بعد أن أعلنت الأخيرة الإخوان تنظيماً إرهابياً، ودخلت في حوارات سرية وعلنية، بالتنسيق مع أبو ظبي، مع “تل أبيب”، التي قال عنها محمد بن سلمان مؤخراً “إنها ليست عدواً، بل هي حليف محتمل”.
قد تتحول “إسرائيل” قريباً إلى قاسم مشترك بين أنقرة والرياض، بعد التصريحات المتتالية للرئيس إردوغان بشأن “أهمية التنسيق والتعاون المشتركَين مع “تل أبيب” من أجل أمن المنطقة واستقرارها”، ناسياً أن “إسرائيل”، منذ قيامها عام 1948، هي السبب الرئيس في جميع مشاكل المنطقة، وأن تركيا كانت أول دولة إسلامية اعترفت بهذا الكيان المصطنَع بعد أشهر من قيامه. كما نسي، أو تناسى، تصريحات رئيس وزراء قطر السابق، حمد بن جاسم، الأخيرة، وما قبلها، بحيث تحدّث بالتفصيل عن “التنسيق والتعاون والعمل المشترك بين قطر والسعودية وأميركا وتركيا ضد سوريا”، وهو ما كان سبباً ونتاجاً لما عاشته وتعيشه المنطقة منذ ما يُسمَى “الربيع العربي”. والرئيس إردوغان كان، ولا يزال، لاعبه الرئيس، بدعم قطري، يبدو أنه لم يعد في المستوى المطلوب مع تطورات الأزمة الخطيرة التي تعيشها تركيا، اقتصادياً ومالياً، “وأحد أسبابها هو مغامرات إردوغان الخارجية”، بحسب أقوال قيادات المعارضة التركية.
ويبقى الرهان على خلفيات التغيير المفاجئ في السياسات التركية، التي إمّا أنها جاءت كفقرة جديدة في السيناريوهات الأميركية الخاصة بالمنطقة، وإمّا بعد أن اقتنع إردوغان بأن هذه السياسات لا ولن تحقق له ما كان يهدف إليه بشأن إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانيتين، وكان آل سعود من ألدّ أعدائهما، بحيث تمرّدوا على هذه الدولة اعتباراً من عام 1790، فاستنجد السلطان العثماني بوالي مصر محمد علي باشا، فأرسل نجله إبراهيم وقضى على هذا التمرد، وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى إسطنبول عام 1820 مكبَّلاً بالسلاسل، فأمر السلطان العثماني محمود الثاني بقطع رأسه، كما أمر محمد بن سلمان بقطع رأس جمال خاشقجي، وهو من أصل تركي.
وهو ما كان كافياً لعداء وحقد سعوديَّين دائمين ضد تركيا والأتراك، الذين تكمن قناعات معظمهم في “أن آل سعود هم سبب كل مشاكل المنطقة، بسبب نظامهم الرجعي المتخلّف، وتدخلهم في الشؤون الداخلية لتركيا، وضد نظامها الديمقراطي العلماني”.
ويبدو أن هذا النظام تحوَّل إلى هدف مشترك لهم وللرئيس إردوغان، والقول هنا لعبد اللطيف شنار، نائب رئيس الوزراء الأسبق في حكومات إردوغان، وهو من مؤسِّسي حزب العدالة والتنمية، الذي استقال منه، وانضم إلى حزب الشعب الجمهوري المعارض. ويرى شنار في مجمل سياسات إردوغان الخارجية، وخصوصاً خلال الأعوام العشرة الماضية، “خطراً على مستقبل تركيا، كما هي الحال في تناقضاته الحالية التي يسعى من خلالها للمصالحة مع جميع أعدائه، باستثناء الأسد”. ويقول الأميرال المتقاعد، توركار أرتورك، إن “هذه التناقضات لن تغيّر شيئاً في تكتيكات إردوغان الحالية، ما دامت هذه المصالحات لا تشمل سوريا، ومن دونها لا ولن يتحقق الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة أبداً”.
والسبب في ذلك واضح جداً، لأن التآمر من أهم خصائص النظام الأميركي الإمبريالي وحلفائه، دولياً وإقليمياً. وآخر مثال على ذلك تصريحات رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، الذي قال “لقد هدّدتني أميركا بإسقاط حكومتي، لأنني رفضت إقامة قواعد عسكرية لها في أراضينا”، مضيفا: “لن أركع أمام أحد، ولن أسمح لشعبي بالركوع أمام أحد”، كأنه يخاطب الأنظمة العربية والإسلامية في المنطقة، التي تتسابق إلى الركوع، ليس فقط أمام سيّدها الأميركي، بل هذه المرة أمام الصهاينة، أعداء الإسلام والمسلمين!
حسني محلي
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال