في مؤتمر المراجعة العاشر الأخير لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن من جديد تصميم بلاده على أن تكون “راعياً مسؤولاً” للترسانة النووية في العالم، والتزامها “بالهدف النهائي المتمثل في عالم خالٍ من الأسلحة النووية”.
قد تبدو كلمات بايدن معقولة للوهلة الأولى حتى يتحقق المرء من نهج الولايات المتحدة في هذه القضية بالذات، حيث لا يتطلّب الأمر عيناً يقظة لمعرفة التناقضات بين ما تقوله الولايات المتحدة وما تفعله، وكذلك عندما تنطبق هذه المسألة على دول مختلفة. بعبارة أخرى لا يتعلق معيار واشنطن بنزع السلاح في حدّ ذاته، ولكن ما إذا كان “معنا أو ضدنا”، بمعنى إذا كانت الولايات المتحدة جادة في أن تصبح عضواً مسؤولاً في النظام الدولي لعدم الانتشار، فعليها أولاً أن توقف لعبة الكيل بمكيالين.
داخلياً، لا تزال الولايات المتحدة تعمل على تحديث رؤوسها الحربية الحالية مع تطوير أسلحة نووية من الجيل التالي، حيث تمتلك 5550 رأساً حربياً، 3800 منها تحتفظ بها وزارة الدفاع، بما في ذلك 1400 منتشرة حالياً على صواريخ عابرة للقارات. وحتى في ميزانية عام 2023، سيتمّ استخدام 34.4 مليار دولار لتحديث ترسانتها النووية، وهي زيادة كبيرة عن 27.7 مليار دولار في ميزانية 2022. ومن بين 34.4 مليار، سيتمّ إنفاق 6.3 مليارات على غواصات نووية إستراتيجية من طراز كولومبيا، و4.8 مليارات على تحديث نظام القيادة النووية.
كما أنه ليس سراً أن الولايات المتحدة كانت تصنع أسلحة نووية منخفضة القوة مثل الرؤوس الحربية “دبليو76- 2” المنتشرة على غواصات ترايدنت. هذه الخطوة الأمريكية التي من الواضح أنها تخفض العتبة النووية، تواجه تحديات من قبل العديد من الدول في العالم.
أما خارجياً، فلا تتخلى الولايات المتحدة أبداً عن استخدام عدم الانتشار كأداة جيوسياسية للحفاظ على تفوقها، إذ عبر المحيط الأطلسي، على سبيل المثال، لدى الولايات المتحدة “مشاركة نووية” مع حلفائها في الناتو، والذي يعتبر منتجاً نموذجياً لعصر الحرب الباردة. ومع ذلك، بدلاً من التخلص منها، كما كان ينبغي أن يكون منذ سنوات، تظل هذه الترتيبات سارية المفعول حتى يومنا هذا. كانت ضرورة “المشاركة النووية” موضع تساؤل من قبل العديد من الدول على مر السنين، حيث دعت مؤتمرات معاهدة حظر الانتشار النووي إلى “تقليص دور الأسلحة النووية في السياسات الأمنية”، لكن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لم يكشفا قط عن العدد الدقيق للرؤوس الحربية النووية الأمريكية الموجودة في أوروبا.
في شمال شرق آسيا، أثناء انتقادها لكوريا الديمقراطية، عملت الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية لاستكشاف وسائل إضافية لتعزيز ما يُسمّى بـ”الردع الموسع” وهي خطوة تجعل المنطقة أقل أمناً. وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أطلقت الولايات المتحدة “أوكوس” وهي دائرة حصرية تتعارض مع أهداف ومبادئ معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وتقوّض نظام عدم الانتشار الدولي. من خلال القيام بذلك من الواضح أن الولايات المتحدة قد وضعت التزامها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي بمنع الانتشار النووي تحت حساباتها الجيوسياسية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن نفاق الولايات المتحدة بشأن عدم الانتشار ينعكس أيضاً في التزامها الفاتر حتى بالمعاهدات التي وضعتها بنفسها، إذ تمّ التوصل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران والأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا من خلال مفاوضات مضنية. إنها اتفاقية دولية معترف بها من قبل الأمم المتحدة، وتشكل مثالاً ناجحاً لمعالجة القضايا الأمنية من خلال الدبلوماسية، لكن انسحاب الولايات المتحدة غير المعقول من الصفقة في ظل إدارة ترامب أحبط الجهود برمتها.
في الحقيقة، إن ازدواجية المعايير الأمريكية لا تتعلق فقط بمنع انتشار الأسلحة النووية، بل تتعلق بأسلحة الدمار الشامل الأخرى أيضاً، فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لا توافق على إنشاء آلية للتحقق من الأسلحة البيولوجية، حيث تشتهر الولايات المتحدة بتجاربها البيولوجية في أماكن مختلفة من العالم، ويشتبه في أن العديد منها يطور أسلحة تحت ستار البحث.
تصوّر الولايات المتحدة نفسها على أنها حارسة السلام والعدالة العالميين، وتطالب الصين والدول الأخرى بالانضمام إلى مفاوضات الحدّ من التسلح، ولكن لإقناع الآخرين يجب على الولايات المتحدة بكلماتها الخاصة أن “تكون القدوة” بصدق، وتتخلى بادئ ذي بدء عن معاييرها المزدوجة بشأن حظر الانتشار النووي والحدّ من التسلح والتوقف عن استخدام ذلك كأداة جيوسياسية قبل المساهمة بنصيبها الواجب في السلام العالمي.
المصدر: البعث
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال