بعد سبع سنوات من انقطاع العلاقات الدبلوماسية (منذ 2016) ودوام القطيعة واحتدام الصراع بينهما على خلفية إعدام النظام السعودي للشهيد الشيخ نمر النمر ظلما وعدوانا بسبب آرائه السياسية.. والذي أعتبرته إيران خطيئة لا تغتفر بإعدام إنسان بسبب كلمة ورأي، وهو انتهاك صارخ لحرية التعبير التي تحميها المفاهيم الإسلامية وتكفلها القوانين الدولية والمواثيق الاممية.
والامر الاخطر هو ما قامت به السعودية من لعب دور خبيث في تأجيج النعرات الطائفية وإثارة الخلافات المذهبية.. من خلال تمويل حرب صدام البعثية بمليارات الدولارات لثماني سنوات (1980-1988) ضد الجمهورية الإسلامية في إيران لتقويض إنتصار ثورة الإمام الخميني (رض) وإخمادها في مهدها، تنفيذا لأوامر حليفه الامريكي، مما تسبب بحدوث أزمات سياسية وأمنية واقتصادية وإنسانية راح ضحيتها مئات الآلاف من المسلمين العراقيين والإيرانيين.
والأمر الآخر هو إنغماس وتورط السعودية في تنفيذ المشروع الامريكي المعادي لخط المقاومة ودول الممانعة، وخوضها حروبا بالوكالة على شعوبها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، والانخراط في مؤامرة تغيير انظمة عربية داعمة لقضايا الامة العادلة وللقضية الفلسطينية، والسعي لإستبدالها بإنظمة مطبعة خانعة خاضعة مستسلمة للمحتل والقوى الغربية..
هذا، وكشفت صحيفة الغارديان البريطانية في 24-9-2020، بان السعودية هي من حثّت الإمارات والبحرين ومن ثم السودان والمغرب بعدها على توقيع إتفاقيات التطبيع مع العدو الصهيوني كغطاء لها قبل أن تقيم علاقات لاحقة مع “إسرائيل” بضعط مباشر من الرئيس الامريكي السابق ترامب، وهي لا تزال حتى الان تشجع هذه الدول المطبعة بالانحراط في مسار توقيع “اتفاقيات أبراهام” المشبوهة والمتناقضة مع الدين الإسلامي الحنيف، مما ترك أثارا سلبية على طبيعة الاصطفافات السياسية وعمّقت الخلافات بين الدول الإسلامية والعربية.
والخطيئة الكبرى للنظام السعودية هو لعبه دورا تخريبيا تدميريا خلال ثلاثين عاما الماضية في دعم الإرهاب والمنظمات الإرهابية ونشر الفكر التكفيري الإلغائي، ثم تسخير هذه القوى الارهابية والاموال البترودولارية في شن الحرب الكونية على سوريا لضرب قدرات قوى محور المقاومة لصالح حماية أمن الكيان الصهيوني.. ثم انتقال عدوانيتها الى دولة جارة – اليمن – من خلال إطلاق عملية عاصفة الحزم عام 2015، والابتداء بحرب عسكرية عدوانية طاحنة عليها وعلى شعبها وحصارها والتسبب بحدوث أزمات وويلات مرعبة يندى لها جبين الإنسانية والتي وثقتها المنظمات الانسانية والحقوقية في الامم المتحدة ووصفتها بانها من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم، كل ذلك بالتنسيق والتعاون مع تحالف قوى العدوان الامريكي البريطاني الصهيوني الاماراتي لزرع الفوضى والخراب والدمار وزعزعة الامن والاستقرار في المنطقة خدمة للمصالح الغربية ومنافعها التجارية والاقتصادية.. مما ترك أثارا سلبية على إختلال موازين القوى للحركات التحررية والمقاومية وغيّرت التوازنات الاستراتيجية لصالح الكيان الصهيوني.
بناء على هذه المعطيات، إليك بعض الانتقادات والملاحظات المرافقة لهذا الاتفاق:
أولا: ما ذكرناه آنفا، هو غيض من فيض من تاريخ الصراع والعداء والحقد والعدوانية السعودية تجاه إيران ودول وشعوب منطقة في غرب آسيا، وما ترتب عليها من تداعيات إنسانية كارثية تدميرية على مستوى الدول والانسان والشعوب وما اصابهم من ندوب وقتل وتشريد وتهجير وإبادة وحروب.. وكان من الاجدى على السعودية التي تتدعي الإسلام وتشرف على أدارة أقدس مدينتين – مكة المكرمة والمدينة المنورة – ان تكون قدوة في السلوك الحضاري وانتهاج سياسات إنسانية وتبني قرارات عقلانية في مسار التنمية والإنماء والإعمار والاستثمار والازدهار والرخاء.. (قارن أيهما أفضل ثقافة الحروب العبثية ام احترام القيم الإنسانية؟؟).
ثانيا: أذكّر بان هذا الاتفاق الإيراني السعودي لا يمسح بشحطة قلم، ولا ينسخ ما كان موثقا من جرائم بنصوص وتقارير أممية ثابتة، ولا يلغي أبدا المسؤولية الدينية والقانونية والاخلاقية والانسانية للسعودية عن كافة الازمات والحروب التي أفتعلتها.. والمآسي والآلام والمعاناة التي خاضتها شعوب المنطقة من جراء أفعالها الإرهابية.. ولا يحق لاحد، مهما علا شأنه، ان يتنازل او يساوم على حساب دماء عشرات الآلوف من الشهداء ومئات الألوف من الجرحى والمعاقين والايتام والأرامل والثكالى.. ولكن نتناول إيجابية الاتفاق من ناحية منطق العقل والفطرة السليمة والحاجة الانسانية الملحة التي تفرض علينا مقاربة الواقع كما هو، وتحتم علينا في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العالم، ان نتناسى ونتعالى عن الانتقام ونتجاوز عن الخطايا السعودية وانتهاكاتها ومجازرها وجرائمها ضد الإنسانية، من أجل فتح صفحة بيضاء جديدة مبنية على قيم التسامح والصفح والتغاضي عن أخطائها المميتة، وغضَّ الطَّرْف حاليا والعضّ على الجراح النازفة للمصلحة الإسلامية والعربية والقومية والإنسانية العليا.. وللضرورة القصوى نعطي الفرصة لطريق الوساطات والمفاوضات يأخذ مداه، عسى ان يوصل الى إنهاء كافة الحروب المدمرة العبثية، ووقف استنزاف شباب الأمّة وطاقاتها وقدراتها وثرواتها.. وإستعادة الامن والاستقرار والسلام بأسرع وقت ممكن.. ونترك جانبا المحاسبة والعقاب والقصاص لله الحاكم والقاضي العادل ولمسار العدالة الالهية والسنن التاريخية.. ولكن نبقى نترقّب اليوم الذي ترتقي فيه الشعوب المظلومة الى درجة عالية من الوعي والادراك، وتمتلك قدرا كافيا من العلم والمعرفة والقوة والاقتدار تسمح لها ان تأخذ حقها بيدها وتحاسب بنفسها – كما يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ﴿البقرة، ١٧٩﴾ – أي لكم حياة آمنة هائئة بعد تطبيق القصاص الرادع لمنع الطغاة والظالمين من التفكير مجددا بالاعتداء والظلم والطغيان. وعلى أمل ان تقوم هذه الشعوب المستضعفة بممارسة حقها الطبيعي في تقرير مصيرها بنفسها واختيار نوع النظام العادل والحكم الذي يناسبها.. وهذا الامر يتطلب قيادة مؤمنة حكيمة قادرة على إدارة الانقلابات وسوق الانتفاضات والتظاهرات والثورات لإسقاط تلك الانظمة المليكة الخليحية المتسلطة الاستبدادية.. وان تكون من أولى أولوياتها إزالة المسبب والراعي لهذه الظواهر التوحشية والكوارث التدميرية.. ويأتي على رأس القائمة إستئصال النظام السعودي القبلي التكفيري الذي فقد شرعيته الشعبية والاقليمية والدولية.. وإزالة الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل لفلسطين – وكما وصف الإمام الخميني (رض) يوما ما “إسرائيل” بانها الغدة السرطانية يجب استئصالها، فاليوم السعودية هي ايضا أصبحت الغدة السرطانية الخبيثة التي يجب اجتثاثها من جسد الأمة الإسلامية – وبدون هذه الجراحة المبضعية في جسد الأمّة لا يمكن إعادة بناء وتشكيل وتدوير هيكلية المنطقة على أسس تداول السلطة والتي لا تتمّ إلا بأستحداث أنظمة سياسية ديمقراطية جديدة تؤمن بالانتخابات كوسيلة لعملية اختيار الحكام من قبل الشعب الذي هو مصدر السلطات. ومن واجب هذه الانطمة الجديدة ان تباشر بكتابة دساتير حديثة تحاكي تطلعات الشعوب نحو قيم الحضارة والبناء والعدل والمساواة والتسامح والاحترام وحفظ كرامة وحقوق الانسان بعيدة عن الانتهاكات والاعتداءات والاعتقالات والقمع والتعسف والاعدامات غير القانونية .. ليسود المنطقة والعالم أجواء دائمة ومستدامة من الأمن والاستقرار والسلام.
ثالثا: عودٌ على ذي بدء، من الناحية الموضوعية، لا بد ان نذكر بعض الأفكار الإيجابية الانسانية المنبثقة من هذا الاتفاق التاريخي بين دولتين مسلمتين: إيران والسعودية، رغم اختلاف طبيعة الحكم، – الاولى جمهورية ديمقراطية والثانية ملكية ديكتاتورية – وإختلاف العقيدة المتبعة – الاولى إسلامية والثانية وهابية – وإليك إضافة بعض النقاط البناءة التي تستحق الذكر في هذا المجال:
1- خيّمت أصداء هذا الاتفاق على الاجواءالعالمية والاوساط السياسية والامنية والاعلامية، وأخذت حيز كبيرمن التصريحات والتغريدات وكم هائل من ردود الافعال المتفاوتة بين مؤيد وداعم ومرحب، وبين صامت وقلق ومترقب.
2- هذا الاتفاق قد يشجع الدول الاخرى المتخاصمة على انتهاج طرق الحوار وأحترام حسن الجوار، والإيمان في نهاية المطاف بانه لا بد من اللجوء الى طاولة المفاوضات والنقاشات لحلّ الخلافات العالقة، وأخيرا لا بد من تبني الحلول السياسية السلمية خيارا استراتيجيا وحيدا لوقف الحروب وفضّ النزاعات والصراعات بينها، على مبدأ: “قبل ان تحكم على خصمك، أسمع مباشرة منه ولا تسمع عنه”، تجسيدا لقول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ﴿ فصلت، ٣٤﴾، أي ادفع بعفوك وصبرك وحلمك وإحسانك مَن أساء إليك واعتدى عليك، وقابله بالصفح والإحسان والتسامح والغفران، وبادره بحسن النية تعبيرا عن ثقافة الخصال الحميدة والاخلاق الرفيعة عسى ان تترك أثارا طيبة في نفوس خصومك، وربما ينقلب خصمك وعدوك اللدود الى صديقك الودود.. حيث سيجني الجميع الخير والمنفعة من تبعات هذه الثقافة التسامحية التي توصل الى برّ الأمان والتعايش السلمي والرفاهية والرخاء في المجتمعات.
3- فتح هذا الاتفاق باب التفاؤل للشعوب المقهورة وشكّل بارقة امل لباقي للدول في دفع عجلة التفاوض، ووضع المنطقة على سكة الحلّ، ومعالجة الكثير من الملفات الاقليمية الشائكة،على سبيل المثال: إنهاء الحرب السعودية على اليمن، وإعادة العلاقات الدبلوماسية العربية مع سوريا، والمصالحة الاخوية بين الجارتين سوريا تركيا، وإيجاد مخرج للازمة السياسية اللبنانية بانتخاب رئيس للجمهورية، وضرورة التوافق على قرار أقليمي ودولي يشرّع جلاء جميع القوات الاجنبية المحتلة من منطقة غرب آسيا.. وعدم السماح للحكومات الغربية مجددا بالتدخل في شؤون دول المنطقة.. وكفّ أياديهم وسياساتهم الاستعمارية من نهب ثروات النفط والغاز والخيرات.. ووقف دعم الإرهاب والعنف ومحو ثقافة القتل والتكفير.. وإخماد نيران البنادق وفوهات براكين الحروب الحارقة ومعالجة تداعيات الزلازل الامنية المدمرة والمتنقلة من منطقة الى منطقة الى الابد باذن الله تعالى.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال