لا تغيب النظرة الثاقبة للثورة الإسلامية في إيران بدءاً مما فعله الإمام الخميني (قده)، حين ربط الثورة ومستقبلها بفلسطين، وصولاً إلى الدور الحالي لسماحة الإمام الخامنئي، في توفير سبل الدّعم والتمويل والتسليح وحتى القيادة بعنوانها التوجيهي والإرشادي، عن النتائج التي يصنعها الفلسطينيون اليوم. الساحة الفلسطينية بشتاتها ومكوناتها - المتناقضة أحياناً - تؤكد هذه الحقيقة: لولا محور المقاومة اليوم، ما كان للمقاومة أن تقف على رجليها (أولاً) ولا أن تؤذي الكيان الصهيوني وتذلّه (ثانياً). هذا لا ينقص في أي حال - بتأكيد المحور وأهل القضية أنفسهم - الدور الأساسي للشعب الفلسطيني الذي يضحّي ويقدّم أغلى ما يملك دون أن ينتظر أحد، وحتى لو تخلى عنه العالم كله. ثمة نقطة أخرى لا بد من التشديد عليها: الفلسطينيون لا يقاتلون بالوكالة عن أحد؛ هم يقاتلون بالأصالة عن نفسهم وعن كل حرّ يرفض أن تبقى ما تُسمى «إسرائيل». وفي تحصيل حاصل، من يقف معهم ويساندهم هو بالدرجة الأولى يدافع عن نفسه وعن الفلسطينيين والأمة ككل. وعندما تتاح الفرصة لبقية مكوّنات الأمة لكي تقاتل الكيان الصهيوني، لن يتأخروا.
على أي حال، لقد مثّل «يوم القدس العالمي» هذا العام دافعاً أساسياً في حشد الشعب الفلسطيني لمعركة «سيف القدس» الأخيرة. وتزامن اليوم الذي أطلقه الإمام الخميني منذ عقود مع هجمةٍ صهيونية شرسة، رسمية واستيطانية، أرادت قطف الثمار مما منحته الولايات المتحدة الأمريكية بلا أدنى حقّ قبل أن يرحل ذلك المجنون الذي أظهر جزءاً بسيطاً من الوجه الأمريكي الحقيقي، دونالد ترامب. في «يوم القدس» من الجمعة الأخيرة من شهر رمضان الماضي، دعا الإمام الخامنئي في خطاب وجّه جزءاً منه باللغة العربية، ولهذا دلالته الكبيرة، دعا الفلسطينيين، سواء في غزة أو القدس أو الضفة أو أراضي 1948 أو المخيّمات، إلى «أن يشكّلوا بأجمعهم جسداً واحداً»، مضيفاً: «ينبغي أن يتّجهوا إلى إستراتيجية التلاحم، فيدافعُ كلُّ قطاعٍ عن القطاعات الأخرى، وأن يستفيدوا حينَ الضغطِ على تلك القطاعات من كلّ ما لديهم من مُعدّات».
لم يتأخر شعبنا كثيراً عن الاستجابة لهذه الدعوة نظرياً وعملياً، بغض النظر عن كون الاستجابة ضمنية أو مباشرة. وقبل كل شيء، تدلّ هذه الدعوة على نفاذ البصيرة وحسن التقدير وصواب التشخيص والقراءة الدقيقة والمسبقة لمسار الأحداث والاقتراب الحقيقي من الفلسطينيين. فلقد هز «تلاحم الجبهات» الكيان الصهيوني على نحو أقلق وجوده - باعترافه - أكثر من الواقع الميداني الذي خلقته معركة «سيف القدس»، والأخيرة أيضاً لا تقلّ أهمية في دلالاتها الحالية والمستقبلية. حتى قبل أن تندلع المواجهة العسكرية، قال الإمام الخامنئي في الخطاب نفسه كأنه يرسم صورة المعركة ونتائجها: «إنّ الأمل في النصر اليوم أكثر مما مضى؛ موازينُ القوى تغيّرت بقوّة لمصلحة الفلسطينيين. العدوّ الصهيوني يهبط إلى الضّعف عاماً بعد عام، وجيشُه الذي كان يقول عنه إنّه "الجيش الذي لا يُقهر" هو اليومَ... قد تبدّل إلى "جيشٍ لن يذوقَ طعم الانتصار"». وفعلاً هذا ما حدث: لم يذق العدو طعم الانتصار ولم يتجرأ أصلاً على طرق أبواب غزة، بل هرب كيلومترات داخل فلسطين، بل من مفارقات هذه الحرب أن الصواريخ الفلسطينية التي موّلتها إيران وساهمت في تعليم الفلسطينيين تطويرها، وفي أحيان أخرى صنعتها، ضربت خطّ الأنابيب الذي بناه الشاه المخلوع والهارب، محمد رضا بهلوي، في ستينيات القرن الماضي، وأشعلت فيه النيران لأيام.
لذلك، من كان يريد قبل المعركة بأيام أن يعرف واقعها والنتيجة المستقبلية لها ولهذا المسار الذي افتتحه الفلسطينيون بدمائهم ومقاومتهم، فليكمل القراءة لذلك الخطاب جيداً: «إن العدّ التنازلي للكيان الصهيوني، وتصاعد قدرات جبهةِ المقاومة، وتزايدَ إمكاناتها الدفاعيّة والعسكريّة، وبلوغَ الاكتفاء الذاتي في تصنيع الأسلحة المؤثّرة، وتصاعدَ الثقة بالنفس لدى المجاهدين، وانتشار الوعي الذاتي لدى الشباب واتساعَ دائرةِ المقاومة في جميع أرجاء الأرض الفلسطينيّة وخارجَها، والهبّة الأخيرة للشباب الفلسطينيين دفاعاً عن المسجد الأقصى، وانعكاس أصداء جهاد الشعب الفلسطيني ومظلوميّته في آنٍ واحد لدى الرأي العام في كثير من بقاع العالم... كلّها تُبشّر بغدٍ مُشرق» . فما هذا الغد المشرق ومتى وكيف؟ إنها أسئلة ستجيب عنها السنوات القليلة المقبلة، وسيحمل الفلسطينيون ومعهم جبهة المقاومة كلها مسؤولية إجاباتها على عاتقهم. ثم لما قررت المقاومة المسلحة أن تأخذ دورها بعد مرور شهر على تصاعد المقاومة الشعبية في القدس والضفة وأراضي عام 1948، اندلعت «سيف القدس»، وازدادت الجبهات كافة اشتعالاً داخل فلسطين وخارجها، وباتت كلمة التحرير التي حاول كثيرون تغييبها أو جعلها في إطار الأحلام كلمة تتردد على ألسنة الأطفال قبل الكبار.
خلال المعركة سارع قادة الفصائل الفلسطينية من سياسيين وعسكريين إلى التواصل أولاً مع المسؤولين السياسيين والعسكريين في الجمهورية الإسلامية كافة، ثم ردّ عليهم أولئك برسائل واتصالات تصدّرت أخبارها وسائل الإعلام. كانت الرسائل الأبرز موجّهة إلى سماحته، وهو لم يتأخر في الرد عليها، مبشّراً بالنصر ومؤكداً أن «قلوبنا حاضرة في ساحة نضالاتكم، ودعاؤنا دائمٌ من أجل دوام انتصاراتكم». ولأنه قائد، لم يتأخر في مخاطبة الشعب الفلسطيني برسالة مباشرة عقب وقف العدوان الصهيوني في غزة، مرفقاً معها توصيفاً دقيقاً لما جرى وتأكيداً لنظرية «تلاحم الجبهات»، حين قال: «إن الشعب الفلسطيني خرج مرفوع الرأس قويّاً من ابتلاء الأيام الأخيرة. فالعدو الوحشي المفترس أدرك حقيقة ضعفه في مواجهة المقاومة الفلسطينية الشاملة... تجربة التعاون بين الفلسطينيين في القدس والضفة وغزة وأراضي الـ 48 والمخيمات رسمت آفاق المستقبل للفلسطينيين». سريعاً تلقى هذا المضمون وتوكّل تطبيقه العملي طرفان: المقاومة الإسلامية في لبنان، والفصائل الإسلامية والوطنية في فلسطين نفسها. لقد تتابعت الكلمات بعد خطاب القائد مع إقرارها بتطبيق واسع لمضمون هذا الخطاب. فمن جهة، وسّع الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، اقتراح «تلاحم الجبهات» داخل فلسطين إلى تلاحمها خارج فلسطين أيضاً، وذلك بقوله إن «المعادلة التي يجب أن نصل إليها: (المساس بـ) القدس يعني حرباً إقليمية» ، منبهاً إلى أن الصهيوني سيفهم أن «أي خطوة من هذا النوع ستكون خطراً على كيانه لأن نهاية أي حرب إقليمية، إذا حصلت ضمن معطيات الواقع الصهيوني وضمن واقع المنطقة وحركات ودول محور المقاومة، نتيجتها - في رأيي - زوال الكيان». وبعد يوم واحد في غزة، أكد المعادلة نفسها قائد حركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار، بإشارته إلى ما اقترحه السيد نصر الله، وقوله مجدداً: «أي مساس بالمقدسات سيعني حرباً إقليمياً... كل قوى أمتنا الحيّة وقوى المقاومة ستكون في المعركة المقبلة إذا نادتنا المقدَّسات».
هذه المعادلة وضع أسسها الإمام الخامنئي حينما أكد في خطاب «يوم القدس» أن «هذا المستقبل المبارك يتطلب أن يكون التكامل بين البلدان الإسلامية هدفاً محوريّاً وأساسياً، ولا يبدو ذلك بعيد المنال»، وأن يكون «محور هذا التكامل قضيّة فلسطين كلّ فلسطين، ومصير القدس الشريف»، عارفاً أن «تكامل المسلمين حول محور القدس الشريف هو كابوس العدوّ الصهيوني وحماته الأمريكيين والأوروبيين»، ليبشّر أن «هذه المساعي سوف تبوء بالفشل»، وأن «الخطّ البياني الانحداري باتجاه زوال العدوّ الصهيوني قد بدأ ولن يتوقف» . إلى حين ذلك، لا بد من العمل على تفعيل مقترح «الاستفتاء الشعبي» الذي طرحه قائد الثورة الإسلامية، وهو مشروع يحتاج إلى أطر عملية لتطبيقه، ويجب أن تكون هذه الأطر فلسطينية قبل أن تكون عربية أو إسلامية أو عالمية.
الكاتب: عبد الرحمن نصار
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال