من تكساس إلى دهلاويه 89

من تكساس إلى دهلاويه

«قد لا أستطيع إزالة هذا الظلام، لكنّني أُظهر بهذا النّورِ الصغير الفرقَ بين الظّلمة والنّور، والحقّ والباطل. إنّ النّور مهما كان صغيراً، فسوف يكون كبيراً في قلب الشخص الذي يسعى إليه»، نقلت هذه الجمل عنه زوجته غادة، وقالت إنّها بعد قراءة هذه الجُمل المكتوبة تحت رسمة ذات خلفيّة سوداء بالكامل، ووسطها شمعة صغيرة كانت تحترق ويبدو نورها صغيراً، عشقته وعشقت أسلوب نظرته إلى الحياة. لعلّه قلّما يقدر أحدٌ على تصديق أن يملك رجلُ حربِ العصابات العسكريّة، الذي كان يظهر في الميدان بصلابة قاسية، مثل هذه الروحيّة اللطيفة والعظمة. لكنّه كان شخصيّة جامعة للأضداد، وكان رجلاً لكلّ الفصول. إنه الدّكتور مصطفى شمران.

وُلدَ مصطفى في تشرين الأول/أكتوبر 1932 في واحدٍ من أحياء طهران. بعد إنهاء دراسته في المرحلة المتوسّطة، وعلى أعتاب الحادية والعشرين، حاز المرتبةَ الخامسة عشرة في امتحان الدّخول إلى الجامعة وقُبِلَ في دراسة اختصاص الإلكترو-ميكانيك في جامعة طهران. بعد خمسة أعوام حصل على منحة حكوميّة للدراسة في جامعة تكساس اي أند أم، وبعد ذلك نجح في الحصول على شهادة الدكتوراه في الإلكترونيك وفيزياء البلازما من جامعة بيركلي في كاليفورنيا بدرجة علميّة هي الأكثر تميّزاً.

مع أنّ الوصول إلى تلك المكانة التي وصل إليها كان أمنية عدد من الشّباب، فإنّ مصطفى كان يُفضّل الجهاد في سبيل القيَم والمبادئ التي كان يُؤمن بصحّتها على حياة الرّخاء التي لم تكن ذات صلة بأيّ واحد من أهدافه.

قبل هجرته، لم تكن الثورة الإسلاميّة قد انتصرت بعد. مع هذا، كان يتابع مع دراسته الأخبارَ السياسيّة وينشط في هذا المجال. وبهذه الروحيّة أيضاً وبالتعاون مع بعض أصدقائه، أسّس للمرّة الأولى «المنتدى الإسلامي للطلّاب الجامعيّين في أمريكا». وكان يُعدّ من المؤسّسين لـ«منتدى الطّلاب الجامعيّين الإيرانيّين» في كاليفورنيا. رويداً رويداً صارت هذه الأنشطة ذريعة لكي يلغي النظام الملكيّ الحاكم في ذلك الزّمان منحته الدراسيّة، لكنّ مصطفى لم يكن الشّخص الذي يتوقّف بسبب هذه التضييقات، فدخل إلى ناسا وحصل على عمل كبير الدّخل وذي مكانة مميّزة.

كان مصطفى من أهل الكتابة كثيراً. وقد بقيت كتاباته في مختلف سنوات حياته ذكرى وطُبِعَت في كتبٍ مؤلّفة من مجلّدات عدّة. في واحدة من مناجاته، يناجي الله ويحاكيه كما يلي: «أيّها الإله العظيم، لا بدّ أن أكون أعلى من الجميع من الناحية العلميّة كي لا يتمكّن للأعداء أن يوجّهوا إليّ طعنة من هذا الباب، ولا بدّ أن أثبت لقساة القلوب الذين جعلوا العلم ذريعة للتباهي على الآخرين أنّهم لن يكونوا ذرّة حتى من تراب نعلي، ولا بدّ أن أُخضع أصحاب القلوب المظلمة المغرورين المتكبّرين كلّهم، ثمّ أكون أكثر شخصٍ تواضعاً وخضوعاً على وجهِ الأرض».

لم يكن الجلوس ذا معنى بالنّسبة إليه، بل كان الكفاح وبذل الجهود من أجل الوصول إلى الحقيقة يهب المعنى لحياته، إنْ كان حين اعتصم مع أشخاص عدّة في مقرّ العبادة داخل مبنى الأمم المتّحدة إلى أن أخرجهم رجال الأمن بالقوّة، أو حين قرّر أن يغادر أمريكا إلى مصر من أجل تلقّي الدورات العسكريّة الخاصّة بحرب العصابات والبارتيزان. ينقل شقيقه قصة اعتصامه كما يلي: «لقد كان عالماً بارزاً وقديراً، وقد اعتصموا مرّة داخل المصلّى أو المكان المخصّص للعبادة في الأمم المتّحدة، فجاؤوا واعتقلوهم وأخذوهم وارتطم رأسه بالأدراج درجة درجة هناك أثناء أخذهم إياه. استمرّ اعتصامهم أسبوعاً وكتب لي رسالة من هناك، وأذكر أنّه كتب: "رمقي على وشك أن يزول كرمق قلم الحبر الذي بيدي» (كان حبر قلمه قد انتهى فوضع فيه بعض الماء وكان لون الجُمل التي كتبها باهتاً)».

كان وجوده في مصر سريّاً ومخفيّاً بالكامل، مع أنّه خضع سنتين لتدريبات عسكريّة قاسية ولم يكن أحدٌ يعلم بوجوده في هذا البلد، حتّى أكثر أنظمة التجسّس والأمن امتلاكاً للإمكانات في أوروبا وأمريكا! بقيَ هناك حتّى استلام أنور السّادات رئاسة الجمهوريّة، ومن بعد ذلك، عاد مجدّداً إلى أمريكا لكنّه لم يتحمّل البقاء هناك مدة طويلة. يتحدّث في مذكّراته عن حالاته في تلك الأيّام بهذه العبارات: «كانت أمريكا التي هي بلدٌ كبير ضيّقةً عليّ، وكأنّما كانت أجواء أمريكا تهبط عليّ فكانت السّماء تهبط عليّ وكنت أشعر بثقل السّقف ولم أكن قادراً على التنفّس وسط هؤلاء المستعمرين والرأسماليّين».

بما أنّ الظّروف لم تكن مساعدة لكي يتوجّه إلى إيران من أجل تنفيذ الأنشطة العسكريّة، اتّجه إلى لبنان من أجل مكافحة إسرائيل وتحرير القدس الشّريف، وانهمك مع الإمام موسى الصّدر جنوبي هذه البلاد وعلى الحدود مع إسرائيل في تربية القوى البشريّة في إحدى دور الأيتام.

كانت حصيلة سبع سنين من إقامته في لبنان تأسيس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» ومنظّمة تحمل اسم «أفواج المقاومة اللبنانيّة» (أمل)، منظّمة يتمحور عملها حول التدريبات العسكريّة والدفاعيّة. وبسبب أنشطة مصطفى شمران وانشغالاته الكثيرة، انفصلت عنه زوجته الأولى. في لبنان، تعرّف شمران إلى سيّدة تُدعى غادة جابر، ونجم عن هذه المعرفة في ما بعد زواجهما.

«أذكر أنّني رافقته في إحدى رحلاته إلى القرى. قدّم إليّ في السيّارة هديّة. كانت هديّته الأولى ولم نكن قد تزوّجنا بعد. فرحتُ كثيراً وفتحتها فوراً. كان حجاباً، حجاباً أحمر اللون بورود كبيرة. صُدمت لكنّه تبسّم. ومنذ تلك اللحظة ارتديتُ الحجاب وبقيتُ أرتديه»، هذه القصة التي نقلتها غادة حول واحدة من الرحلات قبل زواجهما.

بعد انتصار الثورة الإسلاميّة عام 1979، عاد مصطفى إلى حضن الوطن عقب 23 عاماً من هجرته. عاد لكي يقدّم تجاربه التي استمرّت أعواماً ويضعها في خدمة الإسلام وإيران، لكن بعد مدّة جعله اختطاف الإمام السيّد موسى الصّدر يفكّر في العودة مجدّداً إلى لبنان لكي يعمل على تحسين أوضاعه المضطربة. حمل حقيبته الصّغيرة وتشرّف بلقاء الإمام الخمينيّ (قدّه) لكي يحصل على تكليفه منه. كان جواب الإمام جملة واحدة: «لا، فلتبقَ في إيران، فإذا صَلُحَت إيران، فسيصلح لبنان وسائر الأماكن كافة»، فبقيَ في إيران.

ليلة الثامن عشر من تمّوز/يوليو 1979 كانت ليلة قاسية في مدينة باوه، فجماعات الكومله والقوى المعادية للثورة الإسلاميّة كانت قد حاصرت المدينة وارتكبت مجزرة جماعيّة بحقّ غالبيّة أعضاء «حرس الثورة الإسلاميّة»، وكانت المدينة بأكملها ومرتفعاتها ومنحدراتها قد وقعت بأيدي العدوّ. كان نبض كردستان في تلك الليلة بيَد باوه، ولو سقطت المدينة، لكانت كردستان أيضاً ستسقط. اتّصل شمران عبر اللاسلكي بالشرطة في باوه وأعدّ في وزارة الدّفاع رسالة لكي ينقل إلى الإمام الخمينيّ الأوضاع الصّعبة والظروف المعقّدة ويحصل على رأي سماحته، فوجّه الإمام أيضاً بصفته القائد العامّ للقوات المسلّحة الأمر إلى القوّات المسلّحة كافّة بأن تتّجه دون الحاجة إلى كسب الإذن من قادتهم إلى باوه، وجعل القيادة بعُهدة مصطفى أيضاً. حتّى الصباح تمّ إنقاذ المدينة من السّقوط المحتّم بلطف من الله ودراية عسكريّة فريدة من نوعها من الشّهيد شمران. عقب نجاحه، عُيّن في منصب وزير الدفاع، وبعد ذلك جرى اختياره نائباً عن مدينة طهران في مجلس الشورى الإسلاميّ.

بعدما شنّ صدّام هجومه على المدن الجنوبيّة لإيران، اتّجه إلى هناك لكي ينظّم القوّات ويقودها هناك من كثب، وأسّس في مدينة الأهواز مقرّ قوّات حرب العصابات. وبعكس ما جرت عليه العادة مع قادة الحرب، كان يتقدّم جنوده دائماً، ولم يكن الأمر أبداً على هذا النّحو: أن يكون بعيداً ويجلس في غرف القيادة ليتابع الأخبار ويوجّه أوامره. حتّى عندما جُرح مرّة في إحدى العمليّات في قدمه، لم يوافق على أن يجري نقله إلى طهران من أجل العلاج، وبعد بضعة أيّام من الاستراحة عاد إلى الميدان متّكئاً على عصا. أخيراً في سنّ الثامنة والأربعين، جُرح أثناء جولة له في منطقة دهلاويه، وهي قرية في شمال غرب سوسنجرد الواقعة في محافظة خوزستان، العسكريّة جرّاء الإصابة بشظيّة لإحدى القذائف، وأثناء نقله من أجل العلاج نال فيض الشهادة.

يتحدّث الإمام الخامنئي عن شخصيّة الدكتور مصطفى شمران فيصفه بالأنموذج المتكامل: «الشهيد شمران قدوة. لقد كان الشهيد شمران عالماً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. كان متعلّماً ومُحصّلاً للعلم لكنّه كان أيضاً مناضلاً حقيقيّاً ومجاهداً حقيقيّاً أيضاً. لم تكن تعنيه الدنيا والمناصب ولم يكترث للقوت والاسم ولم يعتنِ باسم من سيُسجّل الإنجاز. لم يكن ذلك مهماً بالنسبة إليه. لقد كان منصفاً صريحاً شجاعاً مكابداً. وفي عين لطافته ورقّته ودقّة مزاجه الشاعريّ والعرفانيّ، كان في الحرب جنديّاً دؤوباً».


لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال