نكبة فلسطين.. بدأتها فرنسا وأكملت فصولها بريطانيا 83

نكبة فلسطين.. بدأتها فرنسا وأكملت فصولها بريطانيا

قبل وعد بلفور كانت هناك سلسلة طويلة من الخطط والمشاريع والمؤتمرات التي مهدت لنشأة الكيان المؤقت وأدت فيها بريطانيا دوراً محورياً لم يكن للحركة الصهيونية أن تتقدم لولاه.

لم تبدأ نكبة 48 قبل 75 عاماً بل بدأت سياسياً قبل أكثر من مئتي عام، ففي عام 1799 م استعصت أسوار مدينة عكا الفلسطينية على “نابليون بونابرت” فاتجه تفكيره الاستعماري ضد توسع بريطانيا ووجه نداءً إلى يهود العالم: ” أيها الإسرائيليون إنهضوا فهذه هي اللحظة المناسبة،  إنّ فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة بإستعادة مكانتكم بين شعوب العالم”، تحول نداء نابليون إلى خبرٍ رئيسٍ في الصحف الفرنسية، هُزم نابليون ولم يبق من ذكراه في عكا سوى مجسمٍ يقف على تلةٍ سميت بإسمه، لكن فكرة نابليون بإنشاء وجودٍ يهوديٍ في المنطقة لم تمت بعد أربعين عاماً أعادت بريطانيا ذات الفكرة .

لماذا بريطانيا تحديداً ؟ لأنّ قيام الكيان المؤقت مرتبط في أساسه بالدعم البريطاني منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى من قبل صدور وعد بلفور الشهير الذي يعتبر المحرك الأول لوقوع النكبة، كانت هناك سلسلة طويلة من الخطط والمشاريع والمؤتمرات التي مهدت لنشأة الكيان المؤقت وأدت فيها بريطانيا دوراً محورياً لم يكن للحركة الصهيونية أن تتقدم لولاه. فكيف أسهمت بريطانيا في نشأة هذه الكيان؟

السياق التاريخي وصولاً إلى وعد بلفور

اهتمت بريطانيا منذ منتصف القرن التاسع عشر بفكرة إنشاء وطن قومي لليهود فوجود قوة صديقة بالقرب من قناة السويس يصبُ في مصلحة الإمبراطورية العظمى الرامية إلى ترسيخ نفوذها في المنطقة وتأمين سيطرتها على المعابر البحرية التي تصلها بمستعمراتها في شرق أسيا خصوصاً مع تدهور الدولة العثمانية. أخذ سياسيون بريطانيون يروجون لفكرة ” أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” ، كما كانت الحركة الصهيونية تنشط في بريطانيا كغيرها من جماعات الضغط السياسي  حيث تمثلت أحلامها في إقامة وطن في فلسطين  يهاجر إليه اليهود خاصةً أولئك الذين يعانون من الاضطهاد في روسيا ودول شرق أوروبا، وأدرك قادة الصهيونية أنّ أقوى أمل في إقامة دولة يهودية في فلسطين هي بريطانيا . تقول رسالة لرئيس منظمة الصهيونية العالمية حاييم وايزمن إنه إذا وقعت فلسطين ضمن دائرة النفوذ البريطاني وشجعت بريطانيا الاستيطان اليهودي هناك فقد يكون لدينا في غضون 20 إلى 30 عاماً مليون يهودي هناك وسيشكلون حرساً فعالاً للغاية لقناة السويس. لذلك عمل وايزمن على إنشاء روابط مع قادة بريطانيين منهم الدبلوماسي “مارك سايكس” ووزير الخارجية المستقبلي “آرثر بلفور”، ومع توالي هزائم الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وقعت بريطانيا وفرنسا اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم المنطقة بينهما على أن تكون فلسطين تحت إدارة دولية، لكن “سايكس” كان يدفع باتجاه إنجاح مشروع الصهاينة في فلسطين وتخطي الإدارة المشتركة مع فرنسا ومهد لذلك بإصدار الرسالة المعروفة وعد بلفور في نوفمبر / تشرين الثاني 1917 والتي نصت على أنّ بريطانيا تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين على ألاّ يجري أي شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين، وُصفت الرسالة بأنها وعدُ من لا يملك لمن لايستحق لأنّ بريطانيا لم يكن لها أي حق قانوني أو سياسي في فلسطين وتُعتبر هي الممهد الرئيسي لفتح باب هجرة اليهود على مصراعيه وقيام الكيان المؤقت، لاحقاً بعد شهر من وعد بلفور سقطت الدولة العثمانية ودخلت القوات البريطانية القدس في 11 ديسمبر / كانون أول عام 1917م وعُقد مؤتمر “سان ريمو” الذي تقاسمت بموجبه بريطانيا وفرنسا المنطقة ليبدأ عهد الانتداب البريطاني في فلسطين على مدى 30 سنة.

الدوافع الفعلية البريطانية لوعد بلفور

قبل وعد بلفور كان الحديث عن إنشاء وطن قومي لليهود قديمًا.  فلم تكن فلسطين هي الخيار الأول المقترح رغم مزاعم الارتباط اليهودي بفلسطين، فقد اقترح رئيس الوزراء البريطاني” تشامبرلين” العريش في صحراء سيناء المصرية؛ بينما اقترح بلفور أوغندا، والذي قوبل بالرفض من المؤتمر الصهيوني السادس بدعوى أنّ أوغندا لن تجذب اليهود للهجرة إليها. تلا ذلك مجموعة من الخيارات شملت “كندا، والأرجنتين، وجنوب أفريقيا وغيرها”، قوبلت جميعها بالرفض من الصهاينة.

ولكن ما يثير الدهشة أنّ “بلفور” كان معاديًا لليهود، وكان يرغب في التخلص منهم، فحين تولى رئاسة الوزارة البريطانية في الفترة من 1903 وحتى 1905 شن هجومًا على اليهود المهاجرين لبريطانيا لرفضهم الاندماج مع شعبها. فشرع قوانينَ تحد من هجرتهم إليها تخوفًا من الخطر الذي قد يلحقونه ببلاده.

لذلك رأى في ترحيل اليهود إلى فلسطين فرصة للتخلص من الهجرة اليهودية لأوروبا وطردهم خارجها، لفشل اليهود في الاندماج بأي مجتمع يعيشون فيه مثل: “بريطانيا وألمانيا وفرنسا والنمسا وإسبانيا”
فقد وجدت هذه الدول عدم قابلية اليهود للتعايش؛ والذي يرجع إلى إيمان اليهود وعقيدتهم أنّ بقية البشر من غير دينهم خلقوا لخدمتهم، وفقًا لـ”بروتوكولات حكماء صهيون”. علاوة على ما سبق ذلك من تحذيرات الرئيس الأميركي جوزيف فرانكلين عام 1789م من أنّ اليهود هم الخطر القادم إلى بلادهم.

كما كان للعامل الديني تأثيرٌ لا يمكن إغفاله، وكان للاهتمام بالإنجيل وصورة الأرض المقدسة باعتبارها مهبط الكتاب المقدس، ومنشأ مملكة إسرائيل القديمة أثره في سلوك رئيس الوزراء “ديفيد لويد جورج” تجاه اليهود. فهو صاحب التأثير الأكبر في صدور إعلان بلفور؛ وكان يستخدم مصطلحات وعبارات من الإنجيل عند تحدثه عن فلسطين.

بريطانيا والتمهيد للنكبة

استخدمت بريطانيا كل ما يمكن لوضع فلسطين في حالة سياسية وإدارية واقتصادية تسمح بإنشاء وطن قومي لليهود، دعمت شراء الوفود الصهيونية للأراضي الفلسطينية من أجل بناء المستوطنات مّا أدى إلى تهجير عشرات آلاف الفلسطينيين قسراً من بيوتهم وفرضت ممارسات تمييزية واضحة ضد الفلسطينين أدت إلى صعوبة أوضاعهم الاقتصادية ومنعتهم من حمل السلاح في حين سمحت لليهود بذلك بدعوى أقلية تحتاج للدفاع عن النفس، تدريجياً تحول اليهود من أقلية دينية إلى جماعة لها ثقلها العددي في فلسطين، في المقابل لم تتوقف مقاومة الفلسطينيين للمشروع الصهيوني وتشكلت منظمات فلسطينية سرية شبه عسكرية  كانت إحداها بقيادة الشيخ عز الدين القسام الذي استشهد على يد قوات بريطانية، أشعل مقتل “القسام” فتيل الثورة الفلسطينية الكبرى(1936- 1938)  التي استمرت ثلاث سنوات، وقمعتها بريطانيا بالقتل والتجويع والتعذيب  والتنكيل الجماعي والاعتقال التعسفي،

النكبة… القصة الكاملة

عانى الفلسطينيون من بطش العصابات المسلحة الصهيونية التي تلقت التدريب والدعم من الجيش البريطاني ووصل عددها إلى أربعين ألفاً، تحول الثقل السياسي هذه الفترة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية  إثر جهود الحركة الصهيونية في استمالة الزعامات الصهيونية عن طريق رأس المال والدعاية، ومع تراجع دور بريطانيا أحيلت مسألة فلسطين إلى الأمم المتحدة التي خرجت بخطة لتقسيمها خصصت 55 % من مساحة أراضي فلسطين لليهود الذين كانوا يسيطرون على أقل من 7 % فقط، وقتها قوبلت الخطة برفضٍ فلسطيني عربي وبترحيب صهيوني، أمّا على الأرض فقد سيطر الصهاينة على  عشرات المدن والقرى الفلسطينية وطردوا سكانها الفلسطينيين من بيوتهم بالقوة تحت أعين سلطات الانتداب البريطاني، وبعد نحو ثلاث عقود من الانتداب البريطاني على فلسطين أُعلن عن قيام الكيان المؤقت، اُستخدم تعبير النكبة  لوصف عمليات التهجير القسري الجماعي التي قامت بها العصابات الصهيونية لطرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من أصل مليون ونصف تقريباً من بيوتهم وأراضيهم في فلسطين وإحلال اليهود مكانهم، في سبيل ذلك ارتكبت العصابات الصهيونية التي أمدتها بريطانيا بالسلاح والدعم، أكثر من 70 مجزرة بحق الفلسطينيين تُصنف في إطار جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية كمجازر دير ياسين والطنطورة، فقد سيطرت العصابات الصهيونية على 774 قرية ومدينة فلسطينية ودمرت 531 منها بالكامل وطمست معالمها الحضارية والتاريخية وما تبقى تم إخضاعه إلى كيان الاحتلال وقوانينه، وبهذا أصبح  أكثر من  ثلاثة أرباع مساحة فلسطين التاريخية تحت الاحتلال الإسرائيلي.

النكبة والتي يصادف ذكراها الـــ75 هذه الأيام، تعود ذكراها هذه السنة فيّما تواصل سلطات الاحتلال عمليات التطهير العرقي والتهجير القسري للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وتنكرها لحقوقهم الوطنية والإنسانية، وحقهم في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، وأيضًا حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وتشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم  أحداثًا وتطورات مفصلية في مواجهة الاحتلال والتصدي لمخططاته الاستيطانية والتهويدية، وتحديدًا في مدينة القدس والداخل المحتل، ومحاولته طمس الهوية الفلسطينية العربية، وتشويه النضال الفلسطيني.

 

المصدر: الوفاق
لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال