نمـوت كمـا نريـد لنحيـا كمـا نريـد 14

نمـوت كمـا نريـد لنحيـا كمـا نريـد

معادلة القتال القرآنية التي طبقها المقاوم الشهيد معتز الخواجا وكل مقاومي الوطن وشهدائه نابعة من فلسفة الشهادة التي تشربها كل الأحرار الأبطال الذين اختاروا الموت مقاومين شهداء.

معتز الخواجا شاب فلسطيني في ربيع العمر، من بلدة نعلين غرب مدينة رام الله وسط الضفة في فلسطين المحتلة، أدى صلاة المغرب في مسجد البلدة بقلب معلق بحب الله وعشق الوطن، وخرج منه لينظر ملياً في وجوه أهل بلدته، ويودعهم بصمتٍ يشوبه الحزن والحنين.

انطلق بعزمٍ أكيد نحو هدفه "تل أبيب"، قلب الكيان الصهيوني وبقرته المقدسة، المُقامة على أرض مدينة يافا وجوارها، وكان محط رحاله ومهراق دمه في شارع "ديزنجوف"، أطول وأجمل شوارع المستوطنة الكبرى "تل أبيب".

في هذا الشارع، أشهر معتز الخواجا ثأره وسلاحه، وأطلق غضبه ورصاصه، مصوباً نحو وجوه الغزاة القتلة واللصوص القبيحة، وهو يصرخ قائلاً: ألا شاهت الوجوه. الله أكبر. الله أكبر. لقد جئتكم بالنار والثأر. نار تحرق أحلامكم وأوهامكم. وثأر يدمر مشروعكم وكيانكم. جئتكم مُمثلاً شعبي. كي نموتَ كما نريد مقاومين شهداء، لنحيا كما نريدُ أحراراً أعزاء.

هكذا يكون الموت كما نريد مقاومين شهداء، إذا عجزنا عن أن نحيا في وطننا كما نريد أحراراً أعزاء، لننزع الأمل من اليأس، ولنخرج الحياة من الموت. هذا ما أراد المقاوم الشهيد معتز الخواجا أن يقوله بدمه، متشرباً روح الشعب الفلسطيني كله، وكأنه أصبح شعباً في رجل أو رجلاً يسكنه شعب.

لهذا، قاتل معتز فقتَلَ وقُتِل، في أفضل تجلٍ لمعادلة القتال القرآنية: "يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ"، فارتقى إلى العلا مجاهداً شهيداً في ميدان المعركة، وهو يطارد الغزاة المستوطنين وهم متلبسون بالجريمة، وفي مكانها، في الأرض الفلسطينية السليبة، فتحول دمه وقوداً – كما دماء كل الشهداء – يدفع قطار الكيان الصهيوني المشؤوم إلى محطته الأخيرة نحو الزوال، وزيتاً يضيء طريق الحرية للشعب الفلسطيني نحو وعد الآخرة وبشرى التحرير والعودة.

معادلة القتال القرآنية التي أدركها وطبقها المقاوم الشهيد معتز الخواجا وكل مقاومي الوطن وشهدائه نابعة من فلسفة الشهادة التي تشربها كل الأحرار الأبطال الذين اختاروا الموت، كما يريدون، مقاومين شهداء منذ سمية بنت خياط، وحمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، والحسين بن علي... مروراً بعز الدين القسام، وفتحي الشقاقي، وأحمد ياسين، وقاسم سليماني، وحتى آخر الشهداء من مقاومي كتيبة جنين، وعرين نابلس، وغيرهما.

هي فلسفة قائمة على ركني الاختيار البشري والاصطفاء الإلهي، فاختيار المقاوم للقتال بإرادته الحرة يعني أنه يختار طريقة موته من دون توقيت موته المحدد بأجل لا مفر منه، فإن كان لا مفر من الموت ولا هروب من الأجل، فمن الأفضل أن نموت كما نريد كمقاومين لنحيا كشعب كما يريد.

وفي ركن الاصطفاء الإلهي للشهداء في فلسفة الشهادة، تكتمل المعادلة في إطار سنتي الابتلاء والتداول، لقوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَس الْقَوْمَ قَرْحٌ مثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَيَتخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللهُ لَا يُحِب الظالِمِينَ}.

وبعدما علم الله تعالى صدق إرادتهم واختيارهم للقتال والدفاع عن الحق، اصطفاهم وكرمهم وقربهم إلى جواره واختصهم بفضله، فاتخذ من هؤلاء المجاهدين والمقاومين شهداء أحياء، ففازوا باختيار الخالق وتكريمه للمخلوق الذي انحاز إلى قيمه وشعبه وأمته، واختار الموت الجميل الكريم الذي يفتح أبواب الحياة الجميلة الكريمة لشعبه ليعيش حراً عزيزاً سيداً في وطنه السليب بعد تحريره والعودة إليه.

الموت الذي تكون بعده حياة الشهيد في الجنة وحياة الشعب في الدنيا هو سلاح الاستشهاد كطريقةٍ للموت التي اختارها الشعب الفلسطيني طلباً للحياة، وهو الرد الفلسطيني المُعجز على آلة الحرب الصهيونية المدمرة منذ استشهاد عز الدين القسام وصحبه في أحراج يعبد قرب جنين، الذين كان دمهم هو الذي فجَّر الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، ومنذ استشهاد مصباح الصوري وصحبه في مخيمات وأحياء غزة، الذين كان دمهم هو الذي فجَّر انتفاضة الحجارة الفلسطينية الأولى عام 1987.

وفي العمليات الاستشهادية في قلب الكيان الصهيوني أثناء انتفاضة الأقصى الفلسطينية الثانية بعد عام 2000، كانت دماء الاستشهاديين هي الردّ الفلسطيني المبدع على آلة القتل والتدمير العسكرية الإسرائيلية، مُحققة توازن الرعب ومعادلة الردع تعويضاً عن الخلل الهائل في ميزان القوى العسكري لمصلحة العدو.

بهذا الفهم لفلسفة الشهادة ومعادلة القتال في فلسطين، يُصبح القتال حتى الشهادة نهجاً يسير عليه عُشاق الحياة وهم يركبون سفينة الموت؛ الموت الذي تولد من رحمه الحياة، فدم الشهداء شريان الحياة لشجرة الحرية، والشهداء لا يذهبون إلى الموت، بل إلى الاشتباك المستمر بأيدي إخوانهم ورفاقهم، والرصاص الذي يُصيب قلوبهم لا يُنهي حياتهم، بل يهبهم الحياة الخالدة الجديدة، ويهب الحياة لشعبهم وأمتهم بما توقد في نفوسهم من روح الجهاد والمقاومة وتحررهم من الوهن والوهم، والشهداء يعيدون تشكيل الحياة بزخمٍ أكبر وإبداع أعظم؛ الحياة التي ترسم معالم المستقبل الزاخر بالحرية والشموخ والإباء.

المقاومون الشهداء هم الذين سيقررون مصير فلسطين والشعب والأرض بالحياة والبقاء، ومصير "إسرائيل" والمشروع الصهيوني بالموت والزوال. المقاومون الشهداء هم الَّذين يمثّلون الشعب والأمة قائلين: إن كان لا مفر من الموت، فليكن الموت شهادة. لنمت مقاومين شهداء كما نريد، لا مساومين أذلاء، كما يريد الأعداء. ليكن موتنا شهادة تظهر وجه عدونا القبيح، وتبعث الحياة في شعبنا وأمتنا؛ حياة تقتلع الموت من أرضنا، كما قال الشاعر الفلسطيني الثائر معين بسيسو في قصيدته: "نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا. نعم، لن نموت. نعم سوف نحيا. ولو أكل القيد من عظمنا. ولو فرقتنا سياط الطغاة. ولو أشعلوا النار في جسمنا. نعم لن نموت، ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا".

وليد القططي

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال