ما يراه أغلب الناس ظاهراً هو أنّ هذا «الرجل الشرير»، والذي يُسمّى فلاديمير سارومان بوتين، يغزو بجيشه المتوحش، دولة أوكرانيا الصغيرة والبريئة، يغزوها فجأة، ومن دون أيّ سبب!
إنها نظرة ساذجة، وسردية أحاديها تروّجها وسائل الإعلام المهيمنة.
طنجرة البخار الهائلة:
الغرب ونقصد به نظام واشنطن، وأوروبا الغربية، ودولتين أخريين، يواصل هيمنته الاستعمارية، بالتالي ضغوطاته السياسية، بهدف نهبه المالي المستمرّ، لكلّ دول العالم.
هذه النهب ليس فقط على الدول التي تقع خارج أوروبا، بل يشمل أوروبا، وعلى رأسها ألمانيا، أقوى دولة أوروبية، واقعة تحت الاحتلال الأميركي منذ 70 سنة، منذ أن استسلمت من دون قيد أو شرط، في الحرب العالمية الثانية، مثل اليابان، استسلمت ولا تزال محتلة.
الدول التي تعاني من الضغوطات الغربية القصوى، هي التي تحاول أن تخرج من هيمنة واحتلال واشنطن، وهي قرابة 9 (تسعة) دولة فقط.
إنها الصين، وروسيا، وإيران، وكوبا، ونيكاراغوا، وفنزويلا، وسورية، وكوريا الشمالية، وليبيا سابقاً.
لماذا هذه الدول واقعة تحت الضغوطات القصوى، ما هو العامل المشترك الأكبر بينها.
بينها اختلافات كبيرة، فمنها دول ديمقراطية ومحافظة وشيوعية أو اشتراكية ومسيحية ومسلمة وبوذية.
بالرغم من الاختلافات الجوهرية، إلا أنها متحالفة مع بعضها.
كيف يمكن لدولة محافظة دينياً أو مسلمة مثل روسيا وإيران، أن تتحالف مع دول ملحدة مثل الصين وكوبا وفنزويلا؟
العامل المشترك بينها هو أنها تريد التحرر من نهب الاحتلال الغربي، وتكون حرة ذات سيادة، وتدير أمورها لوحدها، بحسب مصالح شعوبها.
وهذا جريمة كبرى لا يمكن التسامح بها، في نظر الناهبين، بالتالي يجب معاقبتها بكلّ الطرق العنيفة، أقلها تشويه سمعتها، فرض المقاطعات، الثورات الملونة، والغزو العسكري.
الغرب الناهب بذراعه العسكري، المسمّى بحلف ناتو، طوّق روسيا، بدول معادية لها، وأنشأ فيها قواعد عسكرية، مزوّدة بأسلحة ذرية وجرثومية، واستخدم أوكرانيا خاصة كرأس حربة ضدّ روسيا، مع فرض مقاطعات اقتصادية ضدّها، منذ عشر سنوات، لإخضاعها عنوة، أو استنزافها حتى الموت، ضغوط هائلة دفعت روسيا، إلى غزو أوكرانيا، قبل أن يتمّ خنقها.
ويعمل نفس الشيء مع كلّ الدول «الحرة»، مثل الصين، حيث طوّقها هي الأخرى، بكلّ أنواع الأسلحة، والمقاطعات، والأحلاف العسكرية، والقواعد، والحروب الفيروسية، والسيبرانية، وزاد من ضغوطاته زيادات مهولة.
خلال هذه السنوات، وقبلها، وإلى اليوم، ترسل واشنطن فرقها من الجواسيس والقتلة، وصائدي الثروات، على شكل دبلوماسيين وعلماء ورياضيين، وحتى موسيقيين.
ليست مهمة هذه الفرق إمتاع دول العالم، بل إصدار الأوامر، والتحكم، والضغوطات، ليشتروا منها فقط، وينفذوا أوامرها، أو يقابلوا العقوبات والذلّ والموت وتدمير بلدانهم، وإرجاعها إلى العصور الحجرية، كما حصل مع سورية والعراق وأفغانستان، ومع عمران خان، رئيس وزراء باكستان مؤخراً.
خلال ثلاث شهور من الحرب الأوكرانية، انشغل الغرب في شيطنة بوتين وروسيا، وتهديدها، وزيادة العقوبات والمقاطعات عليها، وهندسوا عزلاً تاماً لها وإعلامها واقتصادها.
لم تنجح جهودهم هذه في كسر بوتين، بل ارتدّت عليهم عقوباتهم الاقتصادية، مما جعل نظام واشنطن يخاف بشكل كبير الآن، ويستخدم سياسة الكلب المجنون، (Mad Dog).
العالم الآن على أبواب أن يدخل في نظام متعدّد الأقطاب، لو نجحت روسيا والصين.
أو يبقى على نفس النظام الحالي، وهو هيمنة القطب الواحد على كلّ العالم، ونهب كلّ دوله وشعوبه، من دون منافس، أو مسائلة قانونية، ناهيك العقاب على جرائمه اللانهائية.
أظهر اقتصادي نيوزيلندي مؤخراً حجم ديون واشنطن، ديونها الداخلية والخارجية، وهو وجه واحد للنهب العالمي الذي يمارسه نظام واشنطن.
هذا الحجم الهائل من الديون هي ديون دولارية فقط، ولا تشمل ديون الدول الأوروبية، وهي دول كتلة اليورو.
وهو لا يشمل النهب الذي تمارسه الشركات الأميركية والأوروبية، للثروات الطبيعية، من نفط وغاز، وذهب وألماس، وفوسفات ومطاط، وأخشاب وأسماك، وغيرها، فكلّ هذا النهب الآخر يدخل في جيوب الشركات مباشرة، ومن خلالها إلى جيوب أصحاب هذه الشركات الخاصة، وهم بضعة ملاك كبار (أوليغارش)، لهذه الشركات الاحتكارية العابرة للقارات.
نعود إلى حجم الديون التريليونية لنظام واشنطن وحده:
تمكنت واشنطن من تراكم هذه الديون الهائلة، لكون الدولار عملة مقبولة (مفروضة) في التعاملات التجارية، في كلّ مكان في العالم، ولكلّ السلع، وفي كلّ الأسواق.
والسبب الثاني هو قيام دول العالم (بنوكها المركزية)، في ربط عملتها بالدولار، بسعر صرف ثابت لا يتغيّر، وحفظ الدولارات كعملة احتياط لها في خزائنها، ولدعم عملتها المحلية، بدلاً من الذهب، أو سلة من العملات العالمية.
هذه المكانة للدولار لم تحصل لوحدها، ولا بسبب عوامل السوق من العرض والطلب الحرين، ولا بسبب قوة اقتصاد خالٍ من الديون، ولا لقوة الميزان التجاري الأميركي (ميزان مديون لآخر 50 سنة)، وهذا كله لضعف صادراتها الصناعية والزراعية، وعجز مديم في الموازنة العامة الحكومية.
حصلت هذه المكانة بسبب التحكم في دول العالم، والهيمنة، والقواعد العسكرية، والتلويح بالقوة النووية، وبالقاذفات الجوية البعيدة المدى، ومن تجوال البوارج وحاملات الطائرات الحربية، في جميع بحار العالم.
وثانياً بسبب التحكم في الهيئات الدولية، مثل البنك الدولي، والصندوق الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ورئاسة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، وقوة الفيتو، والتحكم في هيئات المواصفات الدولية للصناعات والزراعات والطاقة، و… و…
كلّ هذا مكّن واشنطن من طبع دولارات ورقية، وإنشاء حسابات بنكية، من غير رصيد حقيقي من الذهب، أو الثروات الطبيعية، إلا هيبتها العسكرية.
طباعة أيّ دولة لعملتها، من غير رصيد، يجعلها عملة زائفة، وسرعان ما تؤدّي إلى التضخم المفرط، وزيف كامل اقتصادها.
بطبع تريليونات الدولارات الورقية استطاعت واشنطن شراء ما تحتاجه وتريده، من مواد غذائية وبضائع وخدمات وخامات ونفط، من كلّ دول العالم، ومن يعترض يكون مصيره الزوال بانقلاب ملون، أو حرب إفنائية.
هذه السرقات لبضائع وأغذية وطاقة العالم، مقابل إعطاء دولارات زائفة، أضعف الصناعات والزراعات الأميركية، ودهور الإنتاجية والتقدم العلمي، بالتالي ضعف اقتصادها السلعي، لأنها بدأت تحصل على كلّ ما تريده مجاناً، ومن دون بذل أيّ جهد.
ومن جانب ثان، أدخلها في الإنفاق الاستهلاكي الهائل، والمظاهر المكلفة جداً، مما راكم ديوناً أخرى فلكية، كل هذا معاً أدّى إلى عجوزات مزمنة في ميزانها التجاري، وفي موازناتها العامة السنوية.
وبسبب ديونها خفضت أسعار الفائدة إلى الصفر، في بنوكها وبنوك العالم، لفترة طويلة من الزمن، حتى الآن، للحصول على ديون مجانية، وعدم إعطاء أية فوائد لدائنيها، إلا لمن تريد من الأوليغارشية، أصحاب النيوليبرالية المتوحشة.
كم تبلغ هذه الديون السيادية بحسب الإقتصادي النيوزيلندي؟
90 تريليون كعجز موازنة متراكم وديون مباشرة.
169 تريليون خصوم غير مدعمة.
259 تريليون دولار إجمالي الديون.
هذه الديون البالغة 259 تريليون دولار، معناه أنّ العالم قدّم بضائعه وخدماته، وخاماته من نفط وذهب، وأغذية، في مقابل دولارات زائفة، ليس لها دعم حقيقي.
بقسمتنا هذه الديون على كامل الشعب الأميركي، نجد كلّ أميركي صغيراً أو كبيراً، يتورّط في دين بمبلغ 778 ألف دولاراً.
وبقسمتنا نفس هذا الدين على كلّ دافع ضرائب أميركي، يتورّط كل واحد منهم، دفع 2 مليون دولاراً، ليخلص بلاده من هذه الديون الفلكية.
والغريب أنّ هذا النهب المباشر والواضح، هناك من يظنّ، إنه ذهب في جيب المواطن الأميركي البسيط، ولكنه في الواقع ذهب في خزائن بضعة أصحاب للشركات المحتكرة، (المترفون الكبار، من الأوليغارش الأقوياء) والذين ذكرناهم أعلاه.
حتى الشعب الأميركي المسكين، سواء المتعلم أو غير المتعلم، يظن أنّ هذه التريليونات تذهب إليه، وإلى بلاده، لهذا تجده مدافعاً شرساً، ومبرراً لهذا النهب العالمي، ويضحّي بحياته من أجلها! كما يفعل الفرنسي والبريطاني والأوكراني.
طبعاً في الوضع الحالي، لا يستطيع أيّ أحد منا نحن الدائنين، مطالبة واشنطن، بدفع ديونها (فلوسنا)، التي تتزايد يوماً بعد يوم.
لا يمكننا استردادها، إلا خيالاً وأوهاماً، أو مزيداً من الدولارات المزيفة، كما الذي يرجع شيكاً قديماً، من دون رصيد، ليقبض في مكانه شيكاً جديداً، من دون رصيد أيضاً.
ولكن لو انتصر بوتين في معركته، التي يحاربها من أجل بلاده وشعبه أولاً، وأيضاً من أجلنا وأجل كلّ العالم ثانياً، وحقق غايته، وخرج منتصراً من أوكرانيا، لصارت روسيا قطباً دولياً ثانياً.
ولو تركت الصين جبنها وخورها، لأصبحت هي الأخرى، قطباً دولياً ثالثاً.
عندها فقط نتوقع، أن يطالب أحد ما، نظام واشنطن، بدفع ديونها الفلكية، والتي تعترف بها كديون.
ولكن هيهات أن تسقط واشنطن من عرشها، عن السيطرة والهيمنة على العالم.
على الأقلّ لن تسقط من دون إشعال حرباً عالمية ثالثة، كما أشعلت في الماضي القريب، بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين، حربين عالميتين، راح ضحيتهما قرابة 300 مليون إنسان.
وخرجتا منهما، دون أن يتهمهما أحد بإشعال الحربين الكونيتين المدمّرتين، اللتين حرقتا كلّ العالم، وقتلتا الحرث والنسل، أو يطالبهما بأية تعويضات، ولا نالتا أيّ عقاب لجرائمهما، حتى اليوم.
المصدر: البناء
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال