في اللحظات التاريخية المفصلية والتي تتميز بالحساسية البالغة، ينبغي الحرص على دراسة جميع السيناريوهات وعدم الركون إلى قناعات سائدة مهما كانت منطقيتها ووجاهتها، ولا سيما وأن التحولات سريعة والنقلات الاستراتيجية حادة، وهو مما يفسح المجال لسياسات وتحركات كانت في الماضي القريب مستبعدة ومن قبيل الشطحات التحليلية أو الخرافات.
هذه المقدمة واجبة لأننا سنطرح تصورا لسيناريو نرى أن أمريكا قد تقدم عليه رغم تناقضه الظاهري مع الوضع العام الدولي والإقليمي، بل ومع الرغبات الأمريكية الظاهرية في التهدئة وتجنب مواجهات في المنطقة تزيد الأوضاع اشتعالا والأزمات حدة.
وقبل التطرق لهذا السيناريو ينبغي أن نذكر نقطتين نراهما على أهمية كبيرة وينبغي إبرازهما كعنوانين عريضين:
1- أن حديث سماحة السيد حسن نصر الله لـ”قناة الميادين” وخطابه السابق المتعلق بحقل كاريش وما بعده هو حديث الحسم والوصول إلى محطة فاصلة في حرب الإرادات الطويلة بالمنطقة، وأن السيد نصر الله حدد موعد المبارزة الفاصلة في هذه الحرب، إما بانتصار الإرادة المقاومة وفك الحصار، وإما بالمواجهة والتي يصعب أن تكون محدودة ويصعب ضبط انزلاقاتها، وكلا الأمرين هو حسم تاريخي.
2- إن المقاومة لا تتواجه الآن مع العدو الإسرائيلي، وإنما رأسا مع الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن الأمر لا يتعلق بترسيم للحدود، حيث أعلنت المقاومة أنها لا تعترف بالكيان ولا بأن له حدود، والأهم هو أن الأمر لا يتعلق بحل وهمي يعطي انتصار وهمي، وإنما الأمر يتعلق برفع الفيتو الأمريكي على التنقيب والاستخراج لثروات لبنان، وبالتالي فإن أمريكا ليست وسيطا وإنما طرف، بل هي الطرف الأصيل والوحيد الذي يملك تفادي المواجهة برفعه للحصار.
أي أن المواجهة بين المقاومة وأمريكا على رفع الحصار وإلا المواجهة الشاملة، وهذا هو العنوان الحقيقي لمبادرة المقاومة التاريخية الحاسمة.
هنا يمكننا الولوج إلى موضع الكرة الحقيقي، وهو الملعب الأمريكي، وهو ما يجرنا إلى رصد عدد من النقاط المريبة والتي جعلتنا نطرح هذا السيناريو:
أولا: هناك صمت أمريكي مريب على حدث بمثل هذه الخطورة وتهديد يكتسب جديته من جدية المقاومة ومصداقيتها والتي تعرفها أمريكا جيدا، وهذا الصمت لا يقتصر على المستويات الرسمية والدبلوماسية والتي ترفض التعليق، بل يشمل أيضا مراكز الفكر الأمريكية ووسائل الإعلام والتي خلت من التقارير والمقالات والتعليقات والتوصيات، وهو أمر جد غريب ومريب يصعب إحالته على العجز أو غياب تقدير للموقف، ناهيك عن استحالة اعتباره استخفافا واستهزاء بالمقاومة!!!
ثانيا: وسائل الإعلام الصهيونية حافلة بكتابات تنتقد مجتمع الاستخبارات الصهيونية، حيث هناك قناعة استخباراتية بصعوبة اشعال حرب في المنطقة بسبب سفينة حفر واستخراج للنفط، مما جعل هناك هجوما لاذعا على مجتمع الاستخبارات واخطائه الفادحة في تقدير الموقف، واستعادة تاريخية لفشله قبل حرب تموز في تقدير الموقف.
كما حفلت وسائل اعلام العدو بتقارير عن التهديدات الاسرائيلية التي تم ارسالها للمقاومة عبر اروقة دبلوماسية فرنسية وغيرها، إلا أنها كانت حريصة على ابراز طلبات إسرائيلية مقدمة لأمريكا للتسريع بحل ملف التفاوض على الحقول، وكأنه نوع من التبرؤ الصهيوني من الرغبة في التصعيد، وإلقاء للكرة في الملعب الأمريكي.
هنا يمكن طرح سيناريو مخالف للتقديرات السابقة التي ترمي إلى رغبة أمريكا في التهدئة ويمكننا طرحه باختصار كما يلي:
ينطلق التقدير للموقف الأمريكي ورغبة أمريكا في التهدئة من حرص أمريكا على إمدادات الغاز من المنطقة لتعويض بعض من الحصة الروسية على أمل إطالة الأزمة الروسية واستنزاف روسيا عبر العقوبات وكذلك الحرص على عدم ارتفاع اسعار الطاقة، ناهيك عن غياب الرغبة الأمريكية في الانخراط في صراع في منطقة لا تشكل أولوية راهنة، باعتبار ان المواجهة مع روسيا والصين هي الأولوية الأمريكية العاجلة.
وهذا كان الدافع لزيارة بايدن لمحاولة استمالة المنطقة بعيدا عن الروس ومحاولة تخفيض اسعار النفط وتشكيل حلف سياسي مواجه لروسيا ومحور المقاومة.
ونظرا لفشل زيارة بايدن في تحقيق الأهداف الأمريكية بشكل يرضي الداخل الأمريكي، ووجود نتائج عكسية في الرأي العام الداخلي الأمريكي، ومع تقدم روسيا في الجبهات الحربية وزيارة بوتن الهامة لطهران والاعلان عن اجراءات تشي بصمود طويل في المعركة.
يمكن هنا أن ترى الإدارة الأمريكية أن حربا في الشرق الأوسط قد تخدم أهدافها وعودة نفوذها حتى ولو على حساب ربيبتها “اسرائيل” وذلك للأسباب التالية:
1- تشغيل مصانع أسلحتها كجسر جوي مع العدو في معركة كبيرة بتمويل ينتظر أن يكون خليجيا وهو ما يحل جزءا من المشكلة الداخلية الأمريكية على غرار حل أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي بعد نشوب الحرب العالمية وتنشيط الدورة الاقتصادية مع نشوب الحرب.
2- استعادة فزاعة المقاومة للملمة القطيع الشارد، واستخدم نفس المقاربة الأوكرانية، حيث ضحت أمريكا بأوكرانيا للملمة الحلفاء في أوربا وبسط هيمنتها المتراجعة عليهم، وهو ما لا يمنع استغلال “اسرائيل” بنفس الطريقة للملمة العرب إلى الحضن الأمريكي خوفا من المارد المقاوم الذي سيلتف عليهم اذا ما انتصر على “اسرائيل”!!
3- قطع الطريق على تطوير العلاقات مع الروس، باعتبار أن روسيا ستكون على الاقل في لجانب السياسي مع المقاومة، وهو ما سيشكل تناقضا وربما صداما مع الروس.
4- فتح جبهة مضافة لاستنزاف الروس في سوريا باعتبار انزلاقات الجبهات اذا ما نشبت المعركة.
يكتسب هذا السيناريو وجاهته من ملاحظة السلوك الامريكي في اوربا والوصول الى تصعيد خطير باستمرار اصرار امريكا على ارسال الاسلحة الى اوكرانيا رغم التحذيرات الروسية الجادة من ردود صارمة والاحتمالات المتصاعدة لتوسع جبهة الحرب لتشمل البلاد الاوربية المجاورة لاوكرانيا والمنضمة للناتو، وهي مخاطرات أمريكية تقدم عليها كلما وجدت بوادر لوهن أوربي أو نذر لانشقاقات في الصفوف المعادية لروسيا.
وبالتالي لا مانع من مجازفات بالمنطقة لاستعادة هيمنتها حتى لو جازفت بأمن حلفائها، باعتبار انها لن تخسر اكثر مما تخسره لو سمحت بانتصار المقاومة في معركة الارادة.
هو سيناريو لانجزم بصحته الكاملة ولكن يجب عرضه وطرحه للدراسة وللمناقشة ولوضعه في الاعتبار في هذه اللحظات التاريخية الحاسمة.
المصدر: العهد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال