هل نقلت أميركا نموذجها الدموي السوري وفتنتها الطائفية إلى أفغانستان؟ 23

هل نقلت أميركا نموذجها الدموي السوري وفتنتها الطائفية إلى أفغانستان؟

تدعي الولايات المتحدة الأميركية ليل نهار بأنها الدولة الأعظم في العالم على صعيد تكريس قيم الديمقراطية والحريات، والتعايش والتسامح بين الأعراق والأديان، ولكن الصورة مختلفة تماما على أرض الواقع من حيث كونها الداعم الرئيسي لبذر بذور الفتن الطائفية والعرقية وزعزعة استقرار الدول والمجتمعات وأمنها، خاصة إذا رفضت قياداتها أن تكون تابعا مخلصا وذليلا لسياساتها ومشاريعها العسكرية والاقتصادية.
أفغانستان، ولأكثر من عشرين عاما كانت بمنأى عن الحروب، والصدامات، ذات الطابع الطائفي، وبين الشيعة والسنة تحديدا، إلا بما ندر، ولكن هذا المشهد تغير، وبعد أسابيع قليلة من هزيمة الولايات المتحدة الأميركية بشكل مهين، وانتصار حركة طالبان، وسحب جميع القوات الأميركية من كابول، وهروب الرئيس أشرف غني بملايينه إلى دولة الإمارات.
الهجوم الانتحاري الذي استهدف يوم الجمعة مسجدا شيعيا في قندهار وأدى إلى مقتل 42 مصليا وإصابة 74 آخرين بجروح، نسبة كبيرة منها خطيرة، جاء بعد أسبوع من هجوم انتحاري مماثل على مسجد للشيعة في قندوز أوقع العدد نفسه تقريبا من الضحايا، وبعد ثلاثة أسابيع تفجير من مسجد للسنة في كابول.
مدينة قندهار التي أفاقت على هذا التفجير الانتحاري للمسجد الشيعي في يوم الجمعة المبارك تعتبر عاصمة حركة طالبان، ومسقط رأسها، والحاضنة الأولى لها، ومعظم سكانها من الطائفة السنية، ويشكل أتباع المذهب الشيعي أقلية فيها، ولم نسمع أو كابنقرأ من قبل عن أي هجوم على مساجد الشيعة، بل قرأنا وسمعنا عن صور وردية مشرفة عن التعايش والتكافل بين أبناء الطائفتين.

حتى تنظيم “القاعدة” المتشدد دينيا الذي كان يحظى بحماية حركة طالبان، وكلفت هذه الحماية الحركة الإطاحة بإمارتها الإسلامية الأفغانية الأولى في العدوان الأميركي عام 2001، لم يقدم مطلقا على أي هجوم طائفي الطابع على الأهداف والتجمعات الشيعية في البلاد، والأكثر من ذلك الرسالة شديدة اللهجة التي أرسلها الدكتور ايمن الظواهري إلى أبو مصعب الزرقاوي رئيس فرع التنظيم في العراق يؤنبه فيها على قتل أبناء هذه الطائفة بالسيارات المفخخة، باعتبار أن هذا العمل يشكل خروجا عن قيم الإسلام السمحة.

حتى كتابة هذه السطور لم يعلن أي تنظيم مسؤوليته عن هذه المجزرة، لكن تحقيقات أولية لم تستبعد وجود بصمات لتنظيم “الدولة الإسلامية ـ فرع خراسان” خلف هذه التفجيرات لمعارضتها حكم حركة “طالبان”، وعدم الاعتراف بحكمها، والاحتلال الأميركي أيضا.
مشكلة حركة الطالبان الكبرى أنها قاومت الاحتلال الأميركي لأكثر من عشرين عاما وقدمت مئات الآلاف من الشهداء وانتصرت، ومصيبتها الثانية، في نظر الأميركان، انفتاحها على الصين، وتعميق علاقاتها مع إيران ومد حبال الود مع روسيا، أي المثلث الذي يشكل العدو اللدود لهم، ولهذا صدر القرار بتقويض حكمها، واستنزافه وصولا إلى إسقاطه.
إدارة الرئيس بايدن التي جعلت من شرق آسيا ومواجهة الخطر الصيني على نفوذها وزعامتها، الأولوية القصوى لسياستها الخارجية الاستراتيجية، تريد تطبيق النموذج الفوضوي التقسيمي الدموي السوري في أفغانستان، وتحويلها منصة انطلاق لزعزعة أمن الصين واستقرارها، من خلال تبني جماعات إسلامية متشددة ودعمها، والتركيز خاصة على طائفة الإيغور الإسلامية (تركستان الشرقية) المحاذية مناطقها لأفغانستان.
واللافت، ونحن نتحدث هنا عن تجربة ومشاهدات شخصية، أن تنظيم خراسان المتشدد يتمركز حاليا في منطقة “تورا بورا” الجبلية الوعرة قرب الحدود الأفغانية الصينية (سلسلة جبال هند كوش التي تشكل امتدادا للهملايا أعلى القمم في العالم)، الأمر الذي قد يجعل الوصول إليها صعبا للغاية، ومن المفارقة أن هذه المنطقة (تورا بورا وجوارها) كانت المقر المفضل لزعيم تنظيم القاعدة، ومركز عملياته، وقصفت قبل عامين كهوفها طائرة أميركية من طراز “بي 52″ القاذفة العملاقة بقنبلة بـ”أم القنابل” التي يزيد وزنها عن عشرة أطنان، وتستطيع تدمير العديد من هذه الكهوف.
الفتنة المذهبية فشلت في سوريا مثلما فشلت في العراق وستفشل في لبنان، وأكبر مهندسيها الجنرال الأميركي بريمر يعيش حاليا معزولا وتطارده اللعنات في أميركا، ولا نعتقد أنها ستنجح في أفغانستان على المديين المتوسط والبعيد.
حركة طالبان، وإن اختلف الكثيرون مع أيديولوجيتها الإسلامية المتشددة، ونحن من بينهم، لم تستلم السلطة إلا منذ شهرين فقط، وبدأت للتو في وضع الأساس لحكومتها، وتحمل عبء إقامة إمارتها بعد أن ورثت خزينة خاوية، وإرث كبير من الفساد والفوضى من دولة الرئيس أشرف غني، عميل أميركا الهارب، ولهذا يشكل الملف الأمني نقطة ضعفها.

من الصعب التنبؤ بمستقبل مشروع الفتنة الأميركي في أفغانستان ومآلاته، ولكن ما يمكن التنبؤ به أنه ربما يحقق بعض النجاح في الأشهر وربما السنوات القليلة المقبلة، خاصة على صعيد الفوضى والتفجيرات الانتحارية، ولكن مصيره الفشل حتما، وسيكون قمة هذا الفشل إذا جاء الرد الطالباني باللجوء إلى الإرهاب الانتقامي من المصالح الأميركية، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر، باحتضان جماعات إسلامية متشددة على غرار تنظيم “القاعدة”، وعلينا أن نتذكر أن إمارتها الإسلامية الأولى عاشت خمس سنوات تحت حصار أميركي خانق (1996 – 2001) وباعتراف ثلاث دول بها فقط، (الإمارات، السعودية، باكستان) وتستطيع أن تعيش 50 عاما دون اعتراف أميركي، هذا إذا بقيت أميركا دولة عظمى.. والله أعلم.

 عبدالباري عطوان

لا توجد تعليقات لهذا المنصب.
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال