أصبح الشعب الفلسطيني متيقناً بمقاومته، وفي كل أماكن وجوده، بأنه قادر على أن يحقق معركة التحرير الكبرى.
تتصاعد الأحداث الميدانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ أسابيع عدة، إذ بدأت بسلسلة عمليات فدائية فردية نفذها شبان فلسطينيون في مناطق مختلفة في بئر السبع والخضيرة و”تل أبيب”، وأحدثت صدمة وإرباكاً كبيرين لدى الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
وقد صاحبتها اهتزازات سياسية في بنية حكومة الائتلاف الإسرائيلي بزعامة نفتالي بينيت، بعد انسحاب رئيسة حزب يمينا الإسرائيلي عيديت سيلمان مؤخراً، ما يجعل الائتلاف على شفا الانهيار في أيّ لحظة.
المشهد الفلسطيني المتصاعد تدريجياً منذ أسابيع بات يأخذ أشكالاً أكثر سخونة، مع تزايد حالة التحريض الإسرائيلية الممنهجة ضد المقدسات الإسلامية، ولا سيما تجاه المسجد الأقصى، وإعلان جماعات الهيكل عزمها على ذبح القرابين في باحات المسجد الأقصى، في خطوة تهدف إلى فرض واقع جديد، تمهيداً لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم.
وحدة فصائل المقاومة الفلسطينية سياسياً وعسكرياً وميدانياً مع لغة التهديد الكبيرة التي أطلقتها من قطاع غزة، جعلت مكتب رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي نفتالي بينيت يصدر تصريحاً ينفي فيه نيّة جماعات الهيكل ذبح القرابين خلال الأيام السبعة القادمة لما يُسمى “عيد الفصح اليهودي”، وهو ما يفسر المخاوف والخشية الإسرائيلية من تكرار سيناريو معركة “سيف القدس”، الذي ما زال ذكراها يرعب الاحتلال الإسرائيلي وقيادته التي مُنيت بفشل ذريع أمام قوة المقاومة وصمودها وبسالتها في خوضها معركة الدفاع عن المسجد الأقصى العام المنصرم.
الوحشية المفرطة في سلوك الاحتلال تجاه ما يجري من حالة ثورة عارمة في كل المناطق الفلسطينية تعكس حالة هستيريا وصدمة وارتباكاً شديداً لدى الأوساط الإسرائيلية الرسمية. ولفهم هذا الارتباك، لا بد من فهم مجموعة من المقدمات، إذ إنَّ حالة الارتباك غير ناجمة عن قصور إسرائيلي في الأدوات الأمنية والعسكرية بغرض مواجهة ثورة الشعب الفلسطيني، إنما تدل على تأكّل المخططات وفشل النظريات والسياسات التي طُبقت على الفلسطينيين، والتي راهنت “إسرائيل” عليها خلال محطات عدة في السنوات الأخيرة.
ثمة مراحل متسلسلة، أوّلها مرحلة ما يُسمى عمليّة “السور الواقي” التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين في العام 2002، ثم بعدها مرحلة اندلاع انتفاضة الأقصى وسلسلة الأحداث فيها، ثم مرحلة الانقسام الفلسطيني وإحكام القبضة الأمنية الحديدية على المقاومة في العام 2007، وصولاً إلى هذه المرحلة التي نحياها، والتي تعتبر الأهم في هذه المراحل، إذ تتصدّر مدينة جنين مرة أخرى المشهد المقاوم كبؤرة انطلاق للعمليات العسكرية الفدائية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وإذا ما تحدثنا عن مدينة جنين، أو عدنا بالذاكرة إلى الوراء، فسنجد أنَّ لهذه المدينة خصوصية كبيرة على مر السنوات التي مضت، إذ قامت سابقاً وفود دولية وشخصيات بريطانية وأميركية، مثل وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس وتوني بلير والجنرال الأميركي كيث دايتون، بمحاولة العمل على تدجين المدينة وباقي المناطق التي تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية واحتوائها من أجل صناعة واقع جديد.
وقد صرحوا علانية في ذلك الوقت بأنّ جنين ستكون المدينة الفلسطينية النموذجية التي ستخرّج الفلسطيني الجديد الذي سيحيد عن القيام بواجبه تجاه أرضه ومقدساته أو حتى التفكير في التصدي للاحتلال الإسرائيلي.
خلال هذه المرحلة، تمرّ “إسرائيل” بحالة ارتباك شديدة وغير مسبوقة بين التهديدات الداخلية وانطلاق العمليات ضدها انطلاقاً من الأراضي المحتلة العام 48 ومن مدينة جنين، وما يجري في القدس والمسجد الأقصى، واستحضار مقاومة قطاع غزة والمتغيرات والمعادلات التي فرضتها من جهة. ومن جهة أخرى، سلوكها في الضفة الغربية الذي يُسجل كأنه انعكاس لحالة تخبط في اتخاذ خيارات التعامل مع تصاعد الحالة الثورية وارتفاع منسوب العمليات الفدائية ضد أهداف إسرائيلية.
تعتقد “إسرائيل” أنّها قادرة على تفكيك مثل هذه الحالة الثورية التي فاجأتها، وذلك في سباقها مع الزمن وسلوك مسار تنفيذ عمليات موضوعية أو محدودة في أطراف مدن الضفة، في محاولة لوأد أي روح وطنية مقاومة، من خلال الاعتقالات والاقتحامات والملاحقة المحدودة، لكن سلوكها في الحقيقة يعكس حالة التأكل والفشل، بعد أن أصبحت عاجزة على أن تقوم بعمليات محاصرةٍ لمدن الضفة الغربية وتنفيذ اجتياحات كبيرة أو موسعة وعمليات عسكرية داخل مدينة جنين وغيرها، على غرار ما قامت به في العام 2002، لإدراكها الكبير أنَّ مثل هذه الخطوات سيعزز الحالة النضالية أكثر لدى المقاومة في الضفة الغربية، وسيشعل الضفة الغربية لهيباً في وجهها وتحت أقدامها، ناهيك بالحسابات الأخرى التي فرضت نفسها، بإعلان المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عدم السماح للاحتلال الإسرائيلي بالاستفراد بمدينة جنين أو بأي من المدن الفلسطينية في الضفة الغربية أو القدس المحتلة، وهذا يقرأ، في سياق مهم، بأن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، التي نجحت في تثبيت معادلة “غزة القدس” العام الماضي، نجحت هذا العام مرة أخرى في فرض معادلة جديدة، هي معادلة “غزة القدس جنين”.
إحصائيات متخصّصة صدرت مؤخراً، أكدت تصاعد وارتفاع منسوب الفعل الفلسطيني المقاوم في الضفة الغربية والقدس وحتى في الأراضي المحتلة العام 48. مثل هذه الحالة الثورية يتناسب مع الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
بالعودة إلى مسار الأحداث، سبق معركة “سيف القدس” ظهور عوامل عدة مشابهة باتت قائمة على الأرض هذه الأيام، وما زالت تنذر بتفجر المواجهة. وكما حصل العام المنصرم، تعود القدس لتكون محور الصراع وعنوان المواجهة الأبرز مع “إسرائيل”، وتغطي على كل العناوين، وهذا نابع من أهميتها الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية.
تحتلّ القدس صدارة المشهد الفلسطيني في الصراع مع الاحتلال، وتمثّل الرافعة الأساسية للفعل المقاوم في الساحة الفلسطينية، كما تمثّل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة الرافعة الأهم للصراع مع “إسرائيل”. مقاومة في صمتها مخيفة، وفي ثورتها باتت تشكل رعباً وتهديداً لـ”إسرائيل”، في وقت أعلنت كخطوة أولى حالة التعبئة الشعبية العامة والاستنفار، استعداداً لأيِّ سلوك إسرائيلي يتجرأ مجدداً على المسجد الأقصى أو يؤدي إلى تحقيق ما تخطّط له جماعات الهيكل المتطرفة عبر ذبح القرابين في باحات الأقصى.
المشهد في مدينة القدس وصل إلى ذروته خلال شهر رمضان أمام إرادة الشّعب الفلسطيني الَّذي قرر الاستعداد وحماية المقدسات والدفاع عنها، وهو يراقب سلوك الاحتلال ومستوطنيه. أما عن المشهد، فسيبقى مشهداً ساخناً ومفتوحاً على كلِّ الاحتمالات، وستكون المقاومة قادرةً على تكرار معركة “سيف القدس” وبطولاتها في حال تجرأت جماعات الهيكل الإسرائيلي على فرض واقع جديد يمهّد لهدم المسجد الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم.
يثبت الشعب الفلسطيني يوماً بعد يوم أنّه قادرٌ على أن يكنس الاحتلال، ويدرك أنَّ الزمن لم يعد في مصلحة “إسرائيل” مطلقاً، وأنّ كلّ ثمن يدفعه في صراعه مع الاحتلال يتقدّم خطوات وخطوات إلى الأمام، كما أن الإرادة الفلسطينية تتعزز.
الثقة بالانتصار الكبير على الاحتلال باتت يقيناً أكثر من أيِّ وقت مضى، بل أصبح اليقن الأكبر أن الشعب الفلسطيني بمقاومته في كلِّ أماكن وجوده قادر على أن يحقق معركة التحرير الكبرى وطرد الاحتلال عن كامل الأرض الفلسطينية.
شرحبيل الغريب
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال