لا شك أن تركيز وسائل الإعلام على الأزمة بين أوكرانيا وروسيا، ودعمها للأوكرانيين وتنديدها بروسيا كان من المواقف المهمة جداً واللافتة خلال الأسبوع المنصرم، في وقت توجد فيه قضية أخرى مشابهة تتجاهلها وسائل الإعلام، وتتعلق بقرابة ثلاثين مليون نسمة من المسلمين العرب يعيشون في اليمن.
تعتقد أمريكا وأوروبا أن سكان دول غرب آسيا وإفريقيا، وخاصة المسلمين، هم شعوب من الدرجة الثانية وأن لا قيمة لدماء المسلمين مقارنة بدماء المجتمعات الغربية وإذا كان من المقرر ظهور انعدام الأمن وسفك الدماء والنهب والتهجير في جزء من العالم، فيجب أن يكون في مناطق المسلمين، كما حدث في العقود الأخيرة والسنوات الأخيرة لشعوب سوريا والعراق واليمن.
كما يعتقدون أنه إذا اقتضت مصالح أمريكا وأوروبا غزو بلد فيشنون عليه هجوماً كاسحاً بمعدات عسكرية متطورة، بعد تفسيرهم لميثاق الأمم المتحدة كما يحلوا لهم، ولكن اذا قامت دولة من خارج حلفهم بالهجوم على دولة أخرى يعتبرون ذلك الهجوم عاملاً من عوامل استهداف السلم الدولي وانتهاك الإنسانية والأخلاق.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك الهجوم الروسي الأخير على أوكرانيا، بينما كان حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية قد هاجموا في السنوات الأخيرة العديد من الدول المستقلة ونهبوا ثروات شعوبها، كما حدث في أفغانستان وسوريا واليمن.
يمكن مشاهدة هذا النهج في مواقف وتغطية العديد من وسائل الإعلام الموالية للغرب؛ حيث لم تطلق هذه الوسائل أي هاشتاغ أو تصدر بياناً منذ ست سنوات عن العدوان على الشعب اليمني حتى لم تقم بأدنى إشارة في مواقفها وكتاباتها إلى المجازر اللامتناهية بحق الشعب اليمني والفقر والبؤس الذي يعاني منه شعب هذا البلد، لكنها فجأة انتفضت دفاعاً عن الشعب الأوكراني، وبدأت تذرف دموع التماسيح على الوضع الحالي للشعب الأوكراني. ورغم أن القتل والمجازر والحروب مدانة ولا يمكن الدفاع عنها في أي مكان في العالم وتتعارض مع أبسط المعايير الأخلاقية والإنسانية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يتم تبني المعايير المزدوجة في مواجهة هذه الظواهر المتشابهة.
تحدث العديد من رواد مواقع التواصل الإجتماعي عن المفارقات في الحرب بين روسيا وأوكرانيا ودول مثل اليمن والعراق وأفغانستان. وقام الكثير من السياسيين والكتاب والمحللين بإدانة هذه الإزدواجية في المعايير، حيث أدانت جمعية “الصحفيين العرب والشرق الأوسط” التغطية العنصرية للحرب في أوكرانيا، داعية وسائل الإعلام إلى “تدريب المراسلين على الفروق الثقافية والسياسية للمناطق التي يقومون بإعداد التقارير عنها”.
الجمعية قالت إنها قامت بتتبع أمثلة على تغطية إخبارية عنصرية تعطي أهمية أكبر لبعض ضحايا حرب أوكرانيا على الآخرين، مقدمة بعض الأمثلة لصحفيين أبدوا تحيزا للاجئين الأوكرانيين، مقارنة ببعض الجنسيات الأخرى.
وقال البيان، إن الجمعية “تدين وترفض رفضا قاطعا الآثار الاستشراقية والعنصرية التي قد يتعرض لها أي شعب”، معتبرة أن “هذا النوع من التعليقات العقلية السائدة في الصحافة الغربية يعكس تطبيع المأساة في أجزاء من العالم مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية”.
واعتبر البيان أن “المقارنات غير الدقيقة والمخادعة لا تؤدي إلا إلى تأجيج الصور النمطية وتضليل المشاهدين، وتؤدي في النهاية إلى إدامة الأزمات السياسية والإنسانية”.
كشف الهجوم الروسي على أوكرانيا جانباً عنصرياً لبعض وسائل الإعلام الغربية، حيث كان التنميط الاستشراقي يطغى على تقارير المعلقين والمراسلين. فها هو الإعلامي الأمريكي تشارلي مراسل شبكة «سي بي أس» الأمريكية يظهرعلى الهواء ليقول بصوت رخيم وحزين «مع كل الاحترام… هذا البلد – يقصد أوكرانيا – ليس العراق أو أفغانستان، التي شهدت صراعات وحروباً لعقود طويلة» ولا يفوته أن يقول لنا إن «أوكرانيا بلد متحضر نسبيا» و»بلد أوربي»! دون أن ينسى لباقته وحرصه على عدم خدش مشاعر المشاهد العربي «علي أن أكون حذراً وأنا أستخدم هذه الكلمات»!
تخيلوا ماذا كان سيقول أكثر لو لم يكن حذراً؟.
أما الإعلامية البولندية كيلي كوبيلا، مراسلة «أن بي سي» الأمريكية فقد أتحفتنا بتعليقها على سؤال لماذا رفضت بولونيا دخول اللاجئين في عام 2015 وسمحت بدخولهم في الأزمة الأوكرانية، وقالت: «المواطن الأوكراني بالطبع ليس مواطناً سورياً. المواطن الأوكراني مواطن أبيض مسيحي. لذلك مسموح دخوله لبولنده».
وجاء في تعليق لصحيفة «الديلي تلغراف» عن الحرب على أوكرانيا نشره موقع الجزيرة نت: «إنهم يشبهوننا، وهذا ما يجعل المسألة صادمة. أوكرانيا بلد أوروبي، أهله يشاهدون «نتفليكس» ولديهم حسابات على انستغرام، ويصوتون في الانتخابات ولديهم صحافة حرة. الحرب لم تعد تحدث في المجتمعات الفقيرة المعزولة، الحرب قد تحدث لأي أحد».
أما قناة BFM الفرنسية اليمينية، فقد تبنت خطاباً مماثلاً، حيث أوردت في أحد برامجها: «نحن لا نتحدث عن سوريين يهربون من القصف، بل نتحدث عن أوروبيين يقودون سيارات كسياراتنا».
منذ بدء الهجوم الروسي واجتياز الحدود الأوكرانية، تحول الإعلام الغربي في جله إلى لون علم أوكرانيا وتماهى معه الكثير من الإعلام العربي والأسيوي، وتحدث الجميع تقريباً عن عدوانية روسيا في العصر الجديد. والآن باتت حرب أوكرانيا هي الخبر الأول لجميع وسائل الإعلام في العالم. يدينها كثيرون ويرى البعض أنها حق شرعي لموسكو. لكن هناك من يتحدث عن اضطهاد اليمن وشعبه الذي يتعرض منذ سنوات للعدوان السعودي، والعالم صامت عن الجرائم التي هي أشد قساوة من أوكرانيا، وكأن السعوديين لم يحولوا اليمن إلى ركام ودمار.
تعود هذه الأهمية وعدم الأهمية إلى سيطرة السياسة الغربية على وسائل الإعلام. فهي تغطي الأخبار على نطاق واسع أينما يحلوا لدولها.
ليس لدى اليمن وسائل إعلام عالمية ليتمكن من إيصال صوت المجازر إلى أسماع العالم، إلا عدد محدود من وسائل محور المقاومة التي تتعرض يومياً إلى القيود والحظر وإزالة منصاتها، وهذا ما دفع بالسعودية إلى الاستمرار في جرائمها لأكثر من 6 سنوات والاستمرار في قصف الشعب اليمني المظلوم بالصواريخ والطيران الحربي. فالشعب اليمني الذي يخضع منذ سنوات عديدة لعقوبات وحصار اقتصادي من التحالف السعودي بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية والصهاينة، من الصعب للغاية بل من المستحيل عليه الحصول على الغذاء والدواء.
هناك رقابة شديدة على وسائل الإعلام الغربية والعربية أيضاً في نشر التقارير حول أوضاع الشعب اليمني، وهي غير قادرة على تصوير عمق المأساة في اليمن. ووسائل إعلام الدول الغربية هي من أسباب عدم معرفة الرأي العام العالمي بحقائق اليمن وفلسطين وأفغانستان وغيرها.
لو كانت تعرض الحقائق للعالم كما هي عبر الإعلام ، لكانت ردود الفعل الشعبية ستمنع العديد من الكوارث، لكن احتكار سلطة الإعلام بيد الغرب يخدع الرأي العام ويشوه الحقائق.
الولايات المتحدة هي المسبب الرئيسي في الأزمة الأوكرانية، لكن الرأي العام يتجاهلها لأن كل جهود وسائل الإعلام الغربية تهدف إلى تصوير الأطراف الأخرى على أنها عدوانية. لذلك بقيت اليمن وحيدة، فالغرب، في سياسة مقصودة، غير مكترث بمصير الشعب اليمني لأن إقامة دولة إسلامية مستقلة في اليمن لا يروق للولايات المتحدة والغرب. بل أوكرانيا مهمة لأمريكا لأنها قريبة من روسيا ووضعت موسكو في هذا الوضع.
يموت الأوكرانيون والعالم يرى ويتحدث عن هذا الموت ويحاول مساعدتهم أيضاً، وعلى الجانب الآخر يموت اليمنيون دون أن يراهم أحد أو يتعاطف معهم حتى شكلياً.
جواد عيسى
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال