منذ بدأت تطبيقات اتفاق أوسلو، وقبله اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة، تخط خطوطها الكارثية في واقع الصراع مع الاحتلال الصهيوني، أخذت “مقتضيات” هذه الاتفاقات تتوالى تباعا، بدءا من إضاعة فرص نجاحات مواصلة الكفاح الوطني التحرّري، مرورا بإضاعة مزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وبدء العد التنازلي عما تبقى من الـ 27 ألف كيلومتر مربع من فلسطين، وصولا إلى ما نشهده اليوم من إقامة علاقات تحالفية وتطبيعية وشراكات مختلفة مع كيان الاحتلال؛ بتشجيع من أدوات فلسطينية وعربية، فقدت مناعاتها الوطنية، وقدّمت دفاعاتها لقمة سائغة لعدو تاريخي، وفد إلى بلادنا من كل أصقاع الأرض، وعلى يديه وأيدي محالفيه الدوليين والإقليميين، جرت صناعة نكبات الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، القضية التي ستبقى النقيض التاريخي لما أسمي يوما “المسألة اليهودية” التي جرى اختلاقها وترسيخ كيانها الاستيطاني رمزيا وفعليا في بلادنا، على حساب الأرض والوطن الفلسطيني، بدعم وإسناد مباشريْن من إمبرياليات الغرب الاستعماري، بدءا من وعد بلفور البريطاني، وصولا إلى “وعد ترامب” الأميركي، ووعود تابعيه. وعلى حوافّ وفي قلب هذا الوعد/ الوعود الأخيرة، يقدّم المستسلمون العرب ومطبّعوهم، وبمساعدة من مطبّعي السلطة الفلسطينية، كل ما يلزم من خدمات المشورة السياسية والثقافية والفنية والاقتصادية، في عمليات سمسرةٍ مفضوحةٍ لم تعد تخفى أو تتخفى، طالما أن مصالحهم مصانة ومعترف بها من الاحتلال وشركاه، وهم يسعون إلى استكمال نواقص و”مقتضيات” التسويات التي جرى التوصل إليها منذ “كامب ديفيد” وصولا إلى “أوسلو” وملحقاته.
من هذه “المقتضيات” التي تبدو اليوم أكثر إلحاحا ما أضحى يُقدم عليه البعض الفلسطيني والعربي، من تسليم بأحقية الوجود اليهودي في فلسطين، حين يجهر هؤلاء بالقسمة والتقاسم حتى بالمقدّسات المقدسية، مستندين إلى مزاعم وتأويلات، بل وتقوّلات وتقويلات دينية وغيرها، تسلم زورا وبهتانا بكون فلسطين “أرض ميعاد” ليهودٍ وفدوا من كل أصقاع الأرض، كي يحلّوا محل من كان الوطن الفلسطيني وطنا لهم منذ ما قبل الكنعانيين، وصولا إلى تبلور هويتهم العربية التي ينبغي الحفاظ عليها نقيضا تاريخيا لوجود غير تاريخي “استقرّ” في فلسطين بدعم من دول الاستعمار الغربي، استنادا إلى مصالح تشاركية وزبائنية قامت وتقوم على تقاسم المغانم.
كذلك يبدو أن من “مقتضيات” أوسلو المستجدّة على الصعيدين الفني والثقافي، تلك الأعمال التي تحشر أنوفها في ما لا يعنيها، ولا تعني قضية الشعب الفلسطيني الوطنية، بقدر ما تعني سياسات تطويع وتطبيع تشاركية مع الاحتلال؛ وإلى حدٍّ بات تزوير الحقائق والوقائع الخاصة بالقضية الفلسطينية، لدى بعضهم السلطوي، الفلسطيني والعربي، أكثر مما يمكن وصفه بالمروق. وإن يكن من رسالةٍ لأي عمل فني أو ثقافي، فلا ينبغي تجاهل القضية الأساس أو الاستهانة بها، فهي قضيةٌ مقدّسة لشعب الأرض والوطن الفلسطيني والعربي عموما؛ وإلا نكون قد فرّطنا مسبقا بحقوقنا التاريخية في فلسطين، الوطن الذي لا وطن لشعبه سواه. وما يقال أو يزعم عن توجهات بعض القيادات الفلسطينية لا يمثل الموقف الأصيل لشعب الأرض الفلسطينية، لا في الداخل ولا في الخارج، بقدر ما يمثل هذا البعض “دولة السلطة” بموجب اتفاقاتها مع الاحتلال التي هدفت، منذ البداية، إلى إقامة شبه دويلة كهذه، سلطوية بالأساس، لا تنتمي إلى جنس الدول، ولا تمثل مواطنيها أو تتبنّى حقوقهم وتدافع عنها، وهي الحقوق التي يقرّها المجتمع الدولي وكل منظومات حقوق الإنسان والشعوب في العالم، وما يجري في “دولة السلطة” لا يتعدّى كونه الأصدق تعبيرا عن مجموعاتٍ وظيفيةٍ انقطعت صلتهم بشعبهم وبقضيته الوطنية. وبالتالي، لا يراد أن ينطبق عليهم كامل منظومة الحقوق التي استحقها ويستحقها شعب الـ 27 ألف كيلومتر مربع، الأمر الذي أضحى التطويع والتطبيع والتضييع بالنسبة لهذه المجموعات من طبائع الأمور في الداخل السلطوي، في وقتٍ يُراد للخارج اللحاق بالمصالح القطيعية التي أضحت تنساق انسياقا خلف هوجات الانهزام والاستسلام للعدو وموجاتهما، ولو على حساب وطن تاريخي وشعبه الأكثر أصالة، وأرضه الشاهد الحي، كونها أرض الفلسطينيين الأكثر تاريخية وأصالة عربية من كل تلك الأبواق النابحة، في حظيرةٍ وعلى أعتاب كيان الغدر والاحتلال والفاشية الصهيونية، للقبول بهم حكّاما مستبدّين، ينيبون عنهم نكراتٍ متهافتين كي يعبروا عن مواقفهم الشاذّة غير الاعتيادية، وهم ليسوا يعبّرون عن طبائعهم أو توجهاتهم التطبيعية، بقدر ما يعبّرون عن مواقف الذل والخنوع، استجابة لعقد نقصٍ مزمنة، لا يجرؤون التعبير عنها، فيحيلونها إلى صغار الصغار من حثالات المرتزقة، يتقوّلون ويزعمون ما شاء لهم هوى أسيادهم أن يتفوهوا به من ترهات.
لسنا هنا أمام مصالح تطبيعية، بقدر ما نحن في مواجهة طبيعية مع “متأسرلين جدد” هم أعوان للاحتلال، بوعي منهم ينخرطون بمشاركته التسلط على شعبهم. ولا يكتفون بذلك، بل يدعون أمثالهم من عرب لا أدريين، لا يبالون بغير ترسيخ سلطانهم، وزجّ أنوفهم في كل ما لا يعنيهم من قضايا ليسوا أمينين عليها، ولم يؤمنوا بها يوما، وها هم اليوم يذهبون بعيدا إلى العمل على تبرير انسحابهم منها، تاركين لأبواقهم ترديد مزاعم أن فلسطين ليست للفلسطينيين، وأن اليهود أحقّ منهم بتلك الأرض “الموعودة” والمرصودة لهم “أرض ميعاد” مزعوم، علّها تكون مقبرتهم فعليا في يوم من الأيام، لا وفق ما يجري ترديده من خرافات وأساطير لا يستسيغها العقل. ساعتها، ماذا سيضيف الناعقون إلى ترّهاتهم ومزاعمهم وتقوّلاتهم، في ظل تواصل ذل الهزائم الحضارية، وهي ترقى إلى كونها من طبائع المهزومين لا من مسلكيات تطبيعهم، والخضوع لأعدائهم ومعاداة أشقائهم، كما هو حالنا اليوم بسيادة ثقافات سلطوية ميتة، وإحياء أيديولوجياتها القاتلة، ومنافحتها ومواجهاتها كل قيم العدل والحرية والإنسانية والنهوض والتقدّم.
هكذا باتت أنظمة رسمية عربية عديدة تتجه، لأسباب داخلية وخارجية مختلفة، إلى تطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، قبل التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية؛ في وقتٍ باتت هذه الأنظمة تعتقد أن التطبيع مع إسرائيل يساعدها في حماية أمنها، وتقريبها من واشنطن، بغض النظر عن موقف الفلسطينيين وموقف شعوبها من هذا التطبيع، علمًا أن الرأي العام العربي ما زال يرفض، بأغلبية كبيرة، الاعتراف بإسرائيل. وقد توطّدت علاقات بعض الدول مع إسرائيل إلى درجة التحالف قبل إقامة علاقات دبلوماسية؛ ما يجعل مصطلح التطبيع قاصرًا عن الوصف، لكن التركيز يبقى على خطوات تطبيع العلاقات، نظرًا إلى حساسية الرأي العام العربي الشديدة ضده.
ويبدو واضحًا أن هذا الموقف لم تؤثر فيه الهموم والقضايا الداخلية للشعوب العربية؛ فالعلاقة مع إسرائيل مدفوعة بحسابات الأنظمة ومصالحها، ولا علاقة للشعوب بها من قريب أو من بعيد، فضلًا عن أن الرأي العام العربي بات يدرك أن ما يسمّى “السلام مع إسرائيل” لم يحقق الرخاء للشعوب في الدول العربية التي وقّعت اتفاقياتٍ معها، وأن هذا “السلام” كان من مصادر وقف الإصلاحات في الأنظمة السياسية الحاكمة، بينما الشعوب العربية وأحرار العالم سوف يبقون يعتبرون القضية الفلسطينية أقدس القضايا العادلة التي ينبغي الاستمرار في دعمها وإسنادها حتى الانتصار الناجز لشعبها، وهو أمرٌ لم تستطع ولن تستطيع الأنظمة الرسمية العربية، بطبائعها المعروفة والمكشوفة، إحداث أي تغييرات؛ لا لصالح شعوبها ولا لصالح الشعب الفلسطيني.
المصدر: العربي الجديد
الرأي
إرسال تعليق لهذا المقال